جمود أنظمة السياسة العربية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
بصيرة الداود
خطونا نحو عقد جديد من الألفية الثانية للميلاد، لكننا كأبناء شعوب عربية لا يزال بعضها يعيش تحت وطأة أنظمة جامدة، تبتعد عن التحرك لصالح قضايا الإنسان إلا في مواقف محددة تسبغ من خلالها على سياساتها ستاراً من الديمومة والتكرار بما يكفل لها إعادة إنتاج ذاتها، ولا يسمح لها بممارسة سلطاتها ضمن استراتيجيات تعتمد على العلم والفهم ببواطن الأمور. أما قوانينها السياسية فتصوغها بطريقة تستطيع معها إخضاع المجتمعات لها، في الوقت نفسه الذي لا تسمح فيه لكائن ما أن ينتقد السلوكيات السياسية الخاطئة أو الشاذة، بل تجبر الجميع على القبول والرضوخ لأنواع الأنظمة العربية. فلا دور لعمل المؤسسات المدنية التي تحولت إلى واجهات شكلية عندما حصرت صناعة القرارات السياسية وغيرها في شبكة من العلاقات الشخصية التي يمسك الحاكم بكل خيوطها، لهذا تكثر المكائد والدسائس في دول عالمنا العربي، وتصنع القرارات من خلف الكواليس، في حين لا تملك المجالس النيابية والبرلمانات العربية أية صلاحيات إلا بالتصويت على تلك القرارات المصنوعة مسبقاً، في حين تظل الأحزاب والجماعات السياسية والدينية بمختلف تياراتها الفكرية والثقافية مجرد واجهات شكلية - أيضاً- لا تملك أدنى تأثير في إدارة العملية السياسية.
مستقبل الحياة السياسية في البلاد العربية بشكل عام لا يتغير، الكفاح للمستقبل السياسي لا يعنيه، والأفكار القائمة على مبادئ ومفاهيم فكرية ستبقى سائدة على ما يبدو، أحياناً يبالغ السياسيون في طرح سياسات معينة للأفكار داخل المجتمع الواحد، بحيث يسمح لأبناء المجتمع بمفكريه ومثقفيه بمناقشتها وإقرارها أو تحريمها بصورة يخيل معها لكل ذي عقل وإدراك ووعي بأن هذه الأفكار ربما تكون قد وردت بالفعل في الكتب المقدسة، أو ذكرت بصيغة أو أخرى في مواد أنظمة الحكم، أو في دستور هذا البلد العربي أو ذاك، مع العلم بأن سياسة الأفكار ذاتها غالباً ما تستمر لفترات قصيرة نسبياً في العالم المتقدم بحيث يسمح بتعديلها أو إلغائها بين فترة وأخرى.
لو ترك للتاريخ مجاله الواسع في التحليل والنقد التاريخي لأنظمة السياسة العربية المعاصرة حتى نهاية العقد الأول من الألفية الثانية للميلاد لقرأنا فيه الأسطر والكلمات والمصطلحات السياسية نفسها التي لم تتغير ولا تخرج هذه الأنظمة من تبعيتها، الخاضع معظمها لنظام رأسمالي عالمي منذ نشأته في القرن السادس عشر الميلادي وحتى وقتنا الحالي، أو أنظمة سياسية "رخوة" تعمل على تفكيك دولها بدلاً من بنائها بالشكل الصحيح، فبعضها ترك مهمة بناء بلده لغيره مغلّباً مصالح الأفراد على المصلحة العامة، لذلك يحكم عليها تاريخياً بالدول الأكثر فساداً حتى أن القانون يتم تجاهل أحكامه وأحياناً يتم إخضاعه هو الآخر للرشوة والفساد، وهو ما يقود المجتمع والدولة إلى مزيد من الضعف والتآكل خاصة على مستوى مناعتها الاجتماعية.
جمود الأنظمة السياسية العربية أسبابه كثيرة، لكن أهمها - في رأيي - يتمثل بالفجوة الواقعة بين تضخم أجهزة الدول العربية، وضعف فاعليتها بالمعنى الإيجابي، فهي دول قطرية محدودة جغرافياً وتاريخياً وسياسياً، أصبحت مع مرور الزمن مصدراً للكثير من المشكلات والأزمات الهيكلية بمختلف صورها، وتخطت مشكلاتها الخاصة حدودها الجغرافية لتصبح أزمات على مستوى إقليمي وعالمي.
التاريخ المعاصر لم يشهد أي إعادة لخلق أنظمة سياسية عربية جديدة تستطيع من خلالها مسايرة النظام الدولي والوقوف أمامه َكندٍّ له، فلا تزال فكرة السير على نهج الأسلاف هي المسيطر على عقول السياسيين في الوطن العربي والمحرك الأساسي لصناعة القرارات والقوانين في الدول العربية، وكأن هذا العالم قد توقف زمنه التاريخي والسياسي عند من أسس لهذا الكيان العربي أو ذاك ولم يتغير بعده كثيراً!
إن نجاح بعض سياسات الأنظمة العربية السابقة المؤسسة لمعظم دوله كان السبب وراءها هو عندما تمكّن أولئك الساسة من العمل على خلق نظام سياسي يختلف تماماً عما سبقه من أنظمة، بحيث استطاعت تلك الأنظمة السياسية السابقة مسايرة الأنظمة الأخرى كافة في تلك الأزمنة، لكن معظمها اليوم لم يعد يصلح سياسياً من أجل البقاء على السير خلفه واتباع نهجه، خصوصاً أن حقيقة عالم السياسة لا ثوابت فيه ولا مبادئ صادقة تحركه، فكل ما فيه متغير ونسبي يخضع لحركة وسير التاريخ بتطوراته وأحداثه وظواهره.
أهم شروط إصلاح أي مجتمع عربي معاصر ينطلق من البحث لخلق نظام سياسي جديد يكفل امتلاك الساسة فيه لرؤية وتصورات حديثة لواقع المجتمع والعالم من حوله، ومثل هذا النظام لن يصنع بالتأكيد بيد "العم سام أو العم أبوناجي"، وإنما ينتظر أن يصنع بإرادة أبناء المجتمع الواحد مع نظامه السياسي، وبدلاً من جلوسنا مكتوفي الأيدي، بانتظار أن تتحقق نبوءة أفول الغرب، ليفكر العقلاء من الساسة في عالمنا العربي بشروط تحقق لهم الانتصار السياسي الحقيقي، وفي رأيي فإن بداية ذلك تكون بالفهم الصحيح لمعنى أن نكون أمة عربية، أو لا نكون. كل عام والساسة العرب بخير، وسياساتهم أكثر حرية وعدلاً وتحركاً لكل ما فيه خير لشعوبهم أولاً وأخيراً.