جريدة الجرائد

صبـاح الخيـر فيتنام

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

وليد نويهض

هو عنوان فيلم أميركي اكتسح شباك التذاكر في ثمانينات القرن الماضي. و"صباح الخير فيتنام" جاء في سياق إنتاج هوليوود لعشرات الأشرطة السينمائية التي تناولت موضوع الحرب الأميركية في جنوب شرقي آسيا. وأدى السباق الفني إلى تكوين هوية ثقافية مضادة لسياسة الإدارة وساهم في إطلاق حركة تطالب بالانسحاب والاعتذار ومغادرة المناطق التي تأبى الخضوع للهيمنة الأميركية، وترفض التأقلم مع نموذج يختلف في نمطه المعيشي مع عادات وتقاليد وديانات شعوب مسالمة ومنطوية على هويتها.

فيلم "صباح الخير فيتنام" جاء في سياق موجة سينمائية نقدية احتجت على الحرب وتناولتها من زوايا متعارضة. بعض الأشرطة تحدث عن معاناة الجندي الأميركي، وبعضها تحدث عن الأهوال التي يتعرض لها الجنود في غابات فيتنام ومستنقعاتها، وبعضها تحدث عن أخطاء الإدارة ودور مؤسسات التصنيع العسكري في إشعال الحروب، وبعضها تناول ظروف الأسرى وما يلاقيه الجنود من تعذيب في معتقلات الفيتكونغ (ثوار الجنوب).

عشرات الأشرطة تطرقت إلى فيتنام في عقد من الزمن. ونجحت تلك الأفلام الهوليوودية في تشكيل صورة نمطية عن قساوة الشعب الفيتنامي في موازاة تأسيس خط سياسي ينتقد المشروع الأميركي وطموحات البيت الأبيض في فرض نموذجه على الشعوب بالقوة. وبين الاتجاهين جاء "صباح الخير فيتنام" ليتناول قضية الإعلام الأميركي وأسلوب معالجته لمسألة الحرب ضمن برنامج صباحي تشرف على إدارته وزارة الدفاع. فالبرنامج موجه وله وظيفة خداع الجنود من خلال ترويج أخبار كاذبة تتحدث عن الهدوء والفرح والاستقرار بغية تسلية القوات وتطمين المقاتلين بأن الأوضاع ممتازة وتسير بالاتجاه الصحيح ولا حاجة للخوف والقلق من المستقبل.

هذه الوظيفة الكاذبة كانت تصطدم يومياً بوقائع مغايرة إذ كانت عاصمة الجنوب (سايغون) تشهد عشرات التفجيرات وأعمال عنف وقتل معطوفة على حروب أدغال ومستنقعات وشبكة أنفاق تحت الأرض. فالوظيفة الإعلامية التي تريد تسلية الجنود وتقطيع الوقت من خلال اختلاق الأكاذيب كانت تواجه ميدانياً شواهد دموية لا يمكن إنكارها ما أدى إلى وقوع خلاف بين الإدارة التي توجه البرنامج مركزياً وضمن خطة مدبرة وبين المذيع الصباحي المشرف على تسويق المعلومات المخالفة للواقع.

بسبب تلك الوظيفة المتوهمة للبرنامج الصباحي أخذ الخلاف يتسع بين إدارة بيروقراطية عسكرية تخترع الأكاذيب وبين مذيع برنامج حاول الدمج بين الرفاهية والتسلية من جانب والاعتراف بالوقائع وما تجلبه من أخبار محزنة من جانب آخر. وبطبيعة الحال تطور الخلاف وانتهى إلى إنهاء خدمة المذيع وطرده من وظيفته وفيتنام ليأخذ البرنامج من جديد وضعيته السابقة وهي إذاعة الأكاذيب وترويج الأوهام.

"صباح الخير فيتنام" كان من الأفلام النادرة التي تحدثت عن وظيفة الإعلام الرسمي في تغطية الحرب والتلاعب بالعقول وإخفاء المعلومات وتسويق نمطية من الانتصارات الزائفة. والحديث عن هذا الشريط لا يخفي أهمية أعمال أخرى تناولت موضوع الحرب من موقع مضاد للسياسة الأميركية. ولكن معظم تلك المنتوجات النقدية جاءت في سياق الدفاع عن الجندي المظلوم والمسكين والبطل الذي جرجر إلى أدغال آسيا بذريعة الدفاع عن النموذج الأميركي بينما هو لا يعلم أنه مجرد ضحية لتنفيذ مشروعات تطمع إلى تحقيقها شركات التصنيع الحربي.

هذا الجانب الصحيح أخفى جوانب أخرى من الصورة. فالحديث عن معاناة وتضحية الجندي الأميركي الذي ينفذ أوامر المؤسسة العسكرية هو نصف الحقيقة؛ لأن النصف الآخر من الصورة يتمثل في الكارثة اليومية التي كان يتعرض لها الشعب الفيتنامي من جراء القصف المدمر للأحياء والقرى والبلدات والمدن.

القتل من الطرف الأميركي كان يشكل الأضعاف المضاعفة. وكل ضحية أميركية كان يسقط في مقابلها مئة فيتنامي وأحياناً ألف فيتنامي. وخلال عشر سنوات من الحرب سقط للولايات المتحدة أكثر من 70 ألفاً بينما خسرت فيتنام ما يزيد على المليونين من الضحايا. حتى الآن لا تزال فيتنام تعاني من أعراض التشوه البيولوجي للجيل الثاني والثالث من الولادات بسبب استخدام قذائف حارقة وإشعاعية. هناك الآلاف من العائلات الفيتنامية لا تزال تتلقى المساعدات من الدولة بغية تأهيل الأسر المعوقة (أعضاء مبتورة) لتمارس حياتها اليومية وتقوم بأعمالها لسد الرزق وتأمين العيش.

هذا الجانب المأسوي لا تتحدث عنه الأفلام الهوليوودية إذ تكتفي بتصوير جانب المعاناة من طرف الجندي الأميركي. كذلك لا يتحدث الإعلام والمؤسسات والمعاهد عن جرائم الحرب التي ارتكبتها الولايات المتحدة في حق فيتنام بقدر ما يتطرق إلى الجوانب النفسية والأحلام المزعجة والكوابيس الليلية التي يعاني منها الجنود الذين خدموا في فترة السبعينات من القرن الماضي.

الجانب المسكوت عنه من الصورة يتمثل فيه فعلاً الوجه الخفي لتلك المأساة. فالإعلام الأميركي يركز الكاميرا على مقابر الجنود في الولايات المتحدة ومضاعفات الحرب على نفسية من عاد سالماً من الحرب، بينما يتجاهل عمداً تلك المصائب التي نزلت بالشعب الفيتنامي وأرهقته اقتصادياً وثقافياً وبشرياً. وهذا السياسة الإعلامية التي لا تكترث للضحايا والخسائر في الجانب الآخر لا تزال تشكل استراتيجية ثابتة في التعامل الأميركي مع الشعوب الأخرى حين تقرر خوض الحروب ضدها.

المشهد الفيتنامي نفسه يمكن مقارنته من خلال مقاربته مع ما يحصل هذه الأيام في أفغانستان أو العراق أو فلسطين ولبنان. فالاعتراض الإعلامي ليس على سقوط ضحايا من أهالي أفغانستان وباكستان والعراق وإنما احتجاجاً على خسائر الولايات المتحدة من قواتها العاملة في تلك المناطق.

إخفاء جوانب من الصورة وإلقاء الضوء على جوانب أخرى يلعب دوره في تزوير الوقائع وإنتاج أوهام سياسية عن "الانتصار" أو "الهزيمة". وربما لهذا السبب تشكلت قناعات أيديولوجية عند جيل سبعينات القرن الماضي بأن نتيجة الحرب انتهت إلى معادلة خروج أميركا من التاريخ ودخول العالم العصر الفيتنامي. وقد يتكرر المشهد في وقتنا الحاضر إذ لا يستبعد أن تعلن "طالبان" في أفغانستان و"القاعدة" في العراق تسجيل انتصار تاريخي على الولايات المتحدة بعد أن تقرر إدارتها في واشنطن انتهاء وظيفة الحرب وتخرج جنودها من تورا بورا وبلاد الرافدين.

الاختلاف بين المخيلة والوقائع شكل مادة التصادم بين مذيع برنامج "صباح الخير فيتنام" ووظيفة الإعلام الحربي في سايغون. فالاختلاف على تسويق الكذب أدى إلى الطلاق بين المؤسسات العسكرية واستديوهات هوليوود ولكنه لم يتطور إلى درجة كشف حقيقة من انهزم ومن انتصر على أرض الواقع.

هل فعلاً انتصرت فيتنام وهل فعلاً الولايات المتحدة انهزمت؟ الجواب لا يحتاج إلى أدلة إذا كان الاقتصاد كالسياسة يلعب دور الحرب في فترة السلام والهدوء. وحين يكون الاقتصاد هو الوجه الآخر للحرب تصبح المعادلة مقلوبة في فيتنام لأن النتيجة تعطي فكرة عن معادلة مضادة باعتبار الولايات المتحدة خاضت بعد "هزيمتها" عشرات الحروب والغزوات وهي الآن تستعد للانسحاب "منهزمة" من العراق وأفغانستان بينما فيتنام "المنتصرة" لا تزال تعاني من آثار الحرب ومضاعفات التشوه وتداعيات تقويض حياة آلاف الأسر والعائلات التي لا يتحدث عنها الإعلام الأميركي وأفلام هوليوود... وبالتأكيد برنامج "صباح الخير فيتنام"


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف