"مصطفى" و"شنايدر" يبكيان على السودان!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عبد السلام بن عبد العزيز اليمني
اللحظات التاريخية والمراحل الدقيقة والحساسة لم تنقطع عن المشهد العربي لحظة واحدة، فالأحداث والخطب والبيانات العربية لا تزال تراوح مكانها، تغيرت الصور وتبدلت الأصوات والتراجع نحو التخلف سيدٌ متربع في العقول العربية.
الأرض الخصبة ظلت حبيسة الخيرات تنتظر جيلاً يعشق العمل ويلهث خلف الإبداع، ورأس المال الجبان المرعوب من فقدان التنظيم والعمل المؤسساتي هاجر بالأموال العربية إلى المناطق الدافئة الأمان ووضوح الرؤيا، العالم المتحضر يتكتل بحثاً عن مكان القوة وعالمنا العربي يسير عكس عقارب الساعة وبوصلة التوجه عاشقاً لإنقلاب الرأس على العقب ونواميس طبيعة التطور، متلذذاً بأجندة التشرذم المُوطّنة لديمومة عمل الحكم السياسي حسب المعتقد.
"مصطفى" شاب سوداني المنشأ واللون وفصيلة الدم، لنبوغه وتفوقه العلمي حصل على منحة لدراسة الطب في ألمانيا، وفي المراحل النهائية للحصول على شهادة تخصص طب الأطفال، رحل إلى وطنه في إجازة أعياد الميلاد ليطمئن على الأهل والأحباب وليتمتع برائحة تراب الوطن الموحد لأيام قليلة، وفي كل مرة طيلة سبع سنوات مضت يعود من وطنه إلى مقر جامعته في برلين محملاً بأثقال هموم أطفال الوطن، وهو العضو الناشط في جمعية وطنية لرعاية الأطفال في السودان.
في رحلته الأخيرة كان الهم مختلفاً والحزن أشد ألماً، قلبه وعقله المشغول بحاجة أطفال الوطن للرعاية تموضع في مكانه هم الوطن برمته بعد أن عاش إسبوعين من حراك تمزيق الوطن!، حزم حقائب العودة لبرلين بيدين ترتعدان وقلب يتمزق من الحزن، وعقل شارد في نتائج المصير، وبدموع أكثر غزارة وأشد حرارة ودع الأبوين والإخوة والأصدقاء ألقى نظرة أخيرة على وطن لن يراه كما هو في رحلات قادمة.
جلس "مصطفى" في مقعده في الطائرة وألقى بتحية عابرة على من يجلس بجواره الذي رد عليه التحية بإيماءة مماثلة، وضع يديه على صدره وركن رأسه إلى مقعد الطائرة وأغمض جفنيه وأطلق العنان لخياله لرسم صورة مختلفة لمستقبل الوطن وما يحدق به من أخطار؟!.
إنطلقت الرحلة وعقل صاحبنا يلج بأصوات الرصاص راسماً صورة قاتمة لمستقبل الوطن، وعندما مرت الطائرة بمطب هوائي رفع يديه فزعاً مما حدث، ما لبث أن إكتشف إرتباطه بما يدور بعقله الباطني، تعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وحدث كل هذا تحت أنظار جاره في الطائرة.
أطفئت إشارة ربط أحزمة المقاعد بعد أن أخذت الطائرة وضعها الطبيعي في المجال الجوي، حضرت عربة الصحف، ولأن الأحداث تشعل عناقيد الصدف كانت المفاجأة الأولى لمصطفى عندما رأى جاره العجوز ذو الملامح الغربية يسحب صحيفة سودانية عربية اللغة، وأخذ يسرق بأنظاره بين الفينة والأخرى ما يفعله الخواجة بالصحيفة ليتأكد هل هو يقرأ أم يشاهد الصور في الجريدة؟!، وبعد برهة من الوقت سمعه يردد بلغة عربية تدل على الإستعراب " هذه البلاد تعود للوراء ".
كانت هذه العبارة "البسملة" التي فتحت طريق المحادثة لمصطفى لينفض عما يكنه صدره من أعباء هموم الوطن، فرد عليه دون مقدمات هذا ما قَضّ مضجعي وزاد من حرقتي على وطني.
إلتفت إليه الرجل العجوز وقال (أنا شنايدر) أقمت في الوطن العربي 35 عاماً منها 10 سنوات في السودان بحكم عمل سياسي (لم يكد يفصح عنه)، تعلمت اللغة العربية وأعرف تفاصيل كثيرة عن الأحداث في العالم العربي، تنقلت بين أغلب بلدانه وفي كل بلد أعجب من أحداثه وسلوكياته السياسية والإجتماعية.
فسأله مصطفى ما الذي جاء به إلى السودان في أعياد الميلاد؟، أجابه شنايدر لن أسألك عن أسباب رحلتك إلى ألمانيا، ولكن قد تستغرب لو قلت لك أنني جئت لإلقاء النظرة الأخيرة على سودان الوطن الواحد،أحببت شعبه الطيب المكلوم بقضاياه السياسية!.
رد عليه مصطفى لتصحيح إعوجاج بداية الحديث وقال، أنا في المراحل النهائية من دراسة طب الأطفال في جامعة برلين التي حصلت عليها نتيجة منحة دراسية لتفوقي العلمي في الثانوية العامة، جئتُ مهموماً بأطفال السودان وعدت مهموماً بمستقبل أمة ووطن.
إستدار "شنايدر" وأراد أن يُعطي مُحَدّثه لمحة عن معرفته العميقة بتاريخ وطنه فقال:
إن السياسيين السودانيين في الوقت الحاضر يعبثون بتاريخ أبطال سابقين لقد جاهد البطل محمد المهدي لطرد الإحتلال التركي من السودان، وبعدها كان البطل إسماعيل الأزهري على موعد لقيادة إنتفاضة شعبية لطرد الإحتلال الإنجليزي الذي إستمر يحكم بلادكم من عام 1898م حتى عام 1955م، وأسس الأزهري حكماً ديموقراطياً سبق به الزمان العربي ولبعد نظره وثاقب بصيرته لتركيبة سودانية عرقية ودينية لن تُحَكمْ بهدوء إلا من خلال ديموقراطية حرة ونزيهة، وأثبت إيمانه بالديموقراطية عندما تخلى عن الحكم لعبد الله خليل بعد إنتخابات ديموقراطية، وبدأت أول روائح الإنقلابات الكريهة عندما قاد الفريق إبراهيم عبود عام 1958م أول إنقلاب عسكري تسلم من خلاله الحكم حتى عام 1964م، وعادت بعدها نسمات الديموقراطية الزكية تهب على السودان عندما عاد إسماعيل الأزهري الذي أعتبره المؤسس والأب الروحي للديموقراطية العربية (على حد تعبير شنايدر)، وبعد ذلك جاء أول ظهور للرئيس الصادق المهدي.
واسترسل العجوز الألماني "شنايدر" في قراءة التاريخ السوداني قائلاً إن أول نكبات السودان السوداء في العصر الحديث حدثت عام 1969م عندما أطاح المشير جعفر نميري بحكومة الصادق المهدي بانقلاب عسكري استمر 16 عاماً، وكان آنذاك مدعوماً بأصوات خطب الثورات الناصرية الملتهبة بحرارة العروبة ومقاومة الإستعمار؟!، أما المشير عبدالرحمن سوار الذهب الذي أطاح بحكم النميري عام 1985م فكانت حركته أزهرية المعتقد والسلوك، لأنه أعاد نبض الحياة إلى شريان المنهج الأزهري الديموقراطي الذي لا مفر منه لحكم بلد مثل السودان، وقد أوفى بعهده وسلم الحكم لحكومة منتخبة برئاسة الصادق المهدي، الذي أودع السودان في سراديب الخمول وعدم التغيير الجذري لإعادة تثبيت دعائم المنهج والفلسفة الأزهرية الديموقراطية، مما أعاد للسودان نمو "ثقافة الإطاحة" فجاء البشير عام 1989م متوشحاً بجلباب الترابي، مالبث أن خلعه وتمرد عليه بعد أن تمكن من تأسيس بنية حكم قوية على نهج ثقافة الأبدية العربية!، يا دكتور مصطفى ألا تلاحظ أنكم أمة تسير للوراء!!.
أصابت مصطفى الدهشة والإعجاب في آن واحد من هذا السرد التاريخي المختصر والمركز من السيد شنايدر وسأله متلهفاً للإجابة، كيف ترى مستقبل السودان بعد الإستفتاء؟.
أجابه شنايدر، إنفصال الجنوب أصبح حتمياً، وإنني لأعجب من أمة تُشرّع أبواب وطنها على مصراعيه للتخلف والجوع وتعميق الصراعات ثم تلقي باللائمة على نظرية المؤامرة، أرضها تكتنز البترول والذهب والألماس والمعادن والمياه والوفيرة والأرض الخصبة وأهلها يعانون من الجوع ويعيشون في بعض المناطق حياة بدائية أكثر تخلفاً من حياة شعوب عاشت في قرون الظلام، فيا للعجب منكم أيها العرب!!.
ثم سأله مصطفى عن وجه الشبه أو الإختلاف بين توحد ألمانيا، وانقسام السودان؟.
تبسم شنايدر، وأبدى سعادته بالسؤال ثم قال: تعرف أن الحرب العالمية الثانية دمرت ألمانيا وقسمتها إلى قسمين ولم نستسلم للأمر الواقع ونجعل من بلدنا مرتعاً للتخلف والإنقلابات العسكرية، بل واجهنا الحقيقة بالصبر والمثابرة ورغم وجود قواعد الحلفاء العسكرية أعدنا بناء ألمانيا الحديثة، ووحدناها عام 1990م في مشهد أثار إعجاب العالم كله، ووقف الرافضون لعودة ألمانيا القوية عاجزين عن القيام بأي ردة فعل مقاومة لإرادة شعب يبحث عن إعادة موقعه الريادي العلمي والإجتماعي، لم نلتفت إلى قوانين التقييد العسكرية التي وضعها الحلفاء، بل أجبرنا العالم على إحترامنا وإحترام إرادتنا، وبعد الهزيمة أنت ترى ألمانيا بوضعها الحالي كأكبر إقتصاد محلي في أوربا، وتحتل المركز الثالث بعد أمريكا واليابان إقتصادياً على المستوى العالمي، ساعد على ذلك أسلوب العمل والسمعة التي اكتسبها الألمان من حيث قدرتهم الكبيرة على إتقان العمل وهي مصدر الثقة الأولى في العالم، وأصبحت ألمانيا ذات تأثير إيجابي في العالم بعد أن كانت أمة مهزومة محطمة من آثار الحرب العالمية الثانية، مشكلة العرب أنهم لا يريدون أن يصنعوا لهم مجداً يرتكز في الأساس على إتقان العمل والإستفادة من دروس وعبر التاريخ، وما خرجت به بعد 35 عاماً قضيتها متنقلاً بين بلدان عربية عديدة وقراءة التاريخ، أنكم أمة تلهو بالسياسة على حساب لقمة العيش، ومن تتوفر لديه لقمة العيش وتفيض عن حاجته يتورط ثم يعجز في فهم إسلوب إدارتها واستثمارها وتوظيفها، لذلك النتيجة في الثقافة والعقل العربي المعاصر واحدة!!
هبطت الرحلة في مطار برلين وقد زالت غمة إنفصال السودان إلى دولتين شمالية وجنوبية عن الدكتور مصطفى لقناعته بتحليل رفيق رحلته شنايدر بأن النتيجة في الوحدة أو الإنفصال واحدة!!.
كاتب سعودي
AAlyemni@yahoo.com