تجدد الأزمة اللبنانية: ما الذي حدث؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
وحيد عبد المجيد
لم يكن سقوط الحكومة اللبنانية في الأسبوع الماضي وتحولها إلى حكومة لتصريف الأعمال مفاجئاً. فالمسافة بين الفريقين اللذين "ائتلفا" فيها (14 و 18 آذار) أبعد من أن تسمح بصمودها إزاء أزمة هائلة بحجم تلك التي أثارها اقتراب موعد إصدار قرار الاتهام في قضية اغتيال رفيق الحريري. فالقرار سيصدر عن المدعي العام في محكمة يتناقض موقفا الفريقين إزاءها، إذ يعتبرها أحدهما وسيلة للعدالة فيما يراها الآخر أداة للمؤامرة.
وكان الخلاف كبيراً على هذه المحكمة الخاصة بلبنان، والتي أنشأها مجلس الأمن الدولي، منذ البداية. فقد تحفظ "حزب الله" وحلفاؤه في "8 آذار" من إقرارها في مجلس الوزراء وسحبوا وزراءهم من الحكومة احتجاجاً، الأمر الذي أنتج أزمة سياسية وأمنية تصاعدت إلى أن أمكن احتواؤها وليس حلها في اتفاق الدوحة في مايو 2008.
لذلك حملت حكومة سعد الحريري في طياتها بذور انهيارها منذ إعلان تشكيلها في 9 نوفمبر 2009. فكان واضحاً أنها لن تقوى على مواجهة أول أزمة كبيرة. كما كان متوقعاً أن تنشب هذه الأزمة على خلفية المحكمة الدولية الخاصة بلبنان والخلاف على كيفية التعامل مع إجراءاتها. وعندما بدأت هذه الأزمة في الظهور عبر تسرب معلومات تفيد أن أعضاء في "حزب الله"، بعضهم قياديون، هم أبرز من سيوّجه ضدهم الاتهام، صار مصير حكومة الحريري معلقاً على التحرك السعودي السوري وإمكان نجاح طرفيه في إيجاد مخرج منها.
لكن الصيغة التي يمكن أن تؤّمن مثل هذا المخرج ليست يسيرة المنال في ظل تعقيدات الأزمة والمسافة البعيدة التي تفصل مواقف طرفيها. فالحلول الوسطية التي يمكن أن يقبلها فريق 14 آذار لا تكفي لإرضاء الفريق الآخر، وخصوصاً "حزب الله" الذي لا يستطيع تحمل إصدار قرار اتهام يهز مكانته ويغير صورته التي يعتز بها وهي أنه رمز للمقاومة التي انتصرت على إسرائيل.
لذلك لم يكن "حزب الله" مستعداً لأقل من نزع شرعية المحكمة عبر إلغاء موافقة الحكومة اللبنانية على تأسيسها وسحب التمويل الذي تقدمه لها وإعادة القضاة اللبنانيين المشاركين فيها. فقد اعتبرت قيادته أنه ليس هناك ما ينقذ سمعته من قرار اتهامي يمكن أن يلطخها، إلا افتراق لبنان كلياً عن مسار المحكمة الدولية عبر موقف تتبناه حكومتها ويعلنه رئيسها الذي هو في الوقت نفسه ولي الدم وصاحب الحق الشخصي.
لذا كانت صعبة هي المعضلة التي سعى التحرك السعودي السوري إلى حلها منذ انعقاد قمة بعبدا بين الملك عبد الله والرئيسين الأسد وسليمان في 30 يوليو الماضي.
وعلى مدى أكثر من خمسة أشهر، أخذت "بورصة" التوقعات تعلو وتهبط وموجات التفاؤل والتشاؤم تروح وتجيء بشأن نتائج هذا التحرك الذي أُطلقت عليه مسميات عدة كالتشاور والمبادرة والتسوية.
والحال أنه لم يلف الغموض تحركاً دبلوماسياً على المستوى الدولي في العقود الأخيرة مثل ذلك الذي أحاط هذا التحرك. فمازالت الروايات متضاربة حول تفاصيله على نحو جعل السؤال المحوري بعد وصوله إلى طريق مسدود هو: أية صيغة أنتجها ومن الذي أفشلها، وهل تم التفاهم على تسوية متكاملة فعلاً ولم يمكن تنفيذها، أم أن المشكلة هي في أن التسوية لم تكن يسيرة أصلاً بسبب بُعد المسافة بين الطرفين اللبنانيين؟
فقد أدى الغموض المستمر إلى تصاعد الاتهامات المتبادلة في الأيام الماضية حول المسؤولية عن العودة إلى ما قبل المربع الأول. فأحد الفريقين يتهم الثاني بإحباط مبادرة "س س" والتسوية التي أنتجتها. وهذا الثاني يتهم الأول بأنه روّج أكذوبة وصدّقها وأخذ يوجه الاتهامات على أساسها.
وكان الحديث الصحافي الذي أدلى به سعد الحريري في السابع من يناير الجاري، أي قبل أربعة أيام على نعي فريق "8 آذار" ما أسماه مبادرة "س س"، قد فجّر الجدل حول ما إذا كانت هناك مبادرة فعلاً وحول عناصرها المحتملة التي لم يتحدث أي من مسؤولي البلدين عنها.
والملاحظ أن الحريري تحدث عن تفاهم وليس عن مبادرة أو تسوية محددة. لكنه أشار إلى ما أسماه "عدداً من النقاط لتثبيت الاستقرار في لبنان)، وإلى "مسار لا يتحرك على خط واحد خلافاً لما يتم الترويج له بل يتطلب خطوات إيجابية عدة لم يقم الطرف الآخر بأي منها حتى الآن".
وقد أبقى حديث الحريري الغموض قائماً، بل أضاف إليه المزيد عندما لم يحدد ماهية هذا الطرف الآخر الذي لم يقم بخطوات إيجابية. والأرجح أنه قصد سوريا و"حزب الله" في آن معاً. قصد سوريا التي سحب أخيراً الاتهام السياسي ضدها وأعلن أنه كان خطأ. لذلك كان ينتظر، فيما يبدو، سحب مذكرات التوقيف التي أصدرها القضاء السوري بحق عدد من عناصر فريقه الذي عمل معه في السنوات الأخيرة. كما قصد "حزب الله" بالمعنى الذي أوضحه لاحقاً عقب عودته إلى لبنان الجمعة الماضي، وهو أنه مستعد لمبادرة في مستوى الآمال المعقودة لدرء الفتنة، لكنها يجب أن تتلازم مع خطوات عملية لتعزيز سلطة الدولة، وهو ما لم يبد الفريق الآخر استعداداً للمباشرة فيه.
غير أن فريق "8 آذار" أخذ حديثه في اتجاه آخر واعتبره دليلاً على صحة خطابه بشأن وجود مبادرة محددة بل تسوية كاملة يبدأ تنفيذها بإعلان الحريري إلغاء موافقة لبنان على إنشاء المحكمة الدولية. لذلك فسر أصحاب هذا الخطاب حديث الحريري عن عدم قيام الطرف الآخر بخطوات معينة باعتباره محاولة منه للتنصل من التزامه باتخاذ موقف واضح تجاه المحكمة قبل إصدارها قرار الاتهام.
ومن الصعب الجزم بوجود مبادرة متكاملة أو تسوية محددة لم تصدر عن راعييها المفترضين السعودي والسوري أية إشارة إليها. وحتى عندما سُئل الأسد عنها، خلال زيارته لباريس في 9 ديسمبر الماضي، قال إنه يوجد فقط تشاور بين الجانبين.
وإلى أن تتبين حقيقة ما أسفر عنه هذا التشاور، يصعب الجزم أيضاً بما إذا كانت رواية فريق "14 آذار" هي الصحيحة. وملخص هذه الرواية أن التشاور السعودي السوري لم ينتج أكثر من تفاهم بين دمشق والحريري لتدعيم العلاقات الثنائية بين سوريا ولبنان، ولإيجاد مخرج يساعد في استيعاب تداعيات قرار الاتهام وفق صيغة تلتزم بها جميع الأطراف، بحيث يمكن ضمان ابتعاد الحكومة عن تنفيذ هذا القرار بعد إصداره.
وربما يكون غموض هذه الصيغة، خصوصاً فيما يتعلق بتوقيت اتخاذ الإجراءات اللازمة لاستيعاب تداعيات قرار الاتهام، وهل يكون بعد إصداره أم قبله، هو الذي أدى إلى الارتطام بالطريق المسدود.
ففرق التوقيت هنا ليس أياماً أو أسابيع، بل مسافة هائلة هي نفسها التي تفصل مواقف الفريقين اللذين استقال وزراء أحدهما من الحكومة فأسقطوها على نحو يضع لبنان مجدداً على حافة الهاوية