تفاصيل هروب أول ديكتاتور بعد "زين العابدين"!

شريف عبدالغني

بعدما ظل الرئيس التونسي الهارب زين العابدين بن علي في الجو 6 ساعات متواصلة، بحثاً عن مأوى لطائرته يحن عليه ويسمح له بالهبوط، أقترح ألا تتم محاكمة أي ديكتاتور يسقط بعد الآن، وأن تكون عقوبته هي تركه يهرب بطائرته إلى أعلى. ففي هذا الأمر عقوبة نفسية كبيرة. وأتخيل أن السيناريو التالي سيحدث مع أول ديكتاتور يلحق بزين العابدين ويشرخ بطائرته:
قائد الطائرة ينطلق بها ولا يعرف وجهته، ويسأل فخامة "الديكتاتور المخلوع": يا صاحب المقام العالي إلى أين سنتجه؟، يجيب: "إطلع الأول بسرعة يا غبي قبل ما يمسكونا وبعدين ربنا يفرجها"، ثم يخرج هاتفه النقال من الجيب الداخلي لبذلته الأنيقة ويبدأ في الاتصال بزملائه خريجي "المدرسة الديكتاتورية الثانوية المشتركة" غير مكترث بتحذيرات قائد الطائرة بخطورة تشغيل الهاتف على "نظام" الاتصال داخلها، وقائلا للكابتن: "نظام إيه بقى.. ما خلاص النظام راح وكل شيء راح".
يتصل القائد بصديقه الديكتاتور الكبير، والذي كان يفضل دائما التشاور معه في أحدث وسائل إذلال الشعوب. بعد 5 رنات يرد عليه زميله بتحفظ: "قلبي معاك يا أخي.. لسه شايف في قناة الجزيرة دلوقت الثورة الشعبية ضدك.. وعرفت إنك ركبت الطائرة.. ربنا معاك وتوصل بالسلامة".
الهارب: "أفهم من كلامك إنك هتستقبلني عندك.. هو ده العشم برضه.. إنت طول عمرك راجل وقت الشدة.. وربنا يقدرني وأرد لك هذا الجميل عند أي انقلاب أو ثورة عليك طال عمرك"..
الزميل صائحا: "انقلاب إيه وثورة إيه.. حسّن ألفاظك يا مخلوع.. إنت فهمتني غلط.. موضوع استضافتك ليس بيدي.. لازم موافقة البرلمان والشعب.. إنت فاكرني زيـّك.عموما اتصل بي بعد 5 دقائق أكون أخذت فيهم موافقة النواب نائبا نائبا والشعب مواطنا مواطنا.. دي الأصول طبعا".
تمر الخمس دقائق وكأنها خمس سنوات على عقل الهارب، ثم يتصل مسرعا بصديقه ليجد هاتفه مغلقا مع رجاء ترك رسالة صوتية.. فيترك له رسالة نصها: "عارفك نذل وبتاع مصلحتك من يومك.. لكن وحياة السيدة الأولى اللي قاعدة جنبي لن أعديّها لك.. وافتكر كلامك لما كنت تقولي الديكتاتور لأخيه الديكتاتور كالبنيان المرصوص".
يبدأ الهارب إجراء اتصالات أخرى بأصدقائه، ويسمع ردودا متنوعة.. مرة أحدهم يقول عدة كلمات مواساة مع تمنيات بحياة سعيدة على المعاش، ويحلّفه أن يتصل به إذا احتاج أي مساعدة للأولاد، ثم ينقطع الخط فجأة. ومرة أخرى يقول له زميل آخر: "والنبي أنا مكسوف منك، ولو كان بإيدي كنت قعّدتك معايا في القصر الجمهوري وتحكم يومين أو ثلاثة كل شهر لأن الزمار يموت وصباعه بيلعب، لكن إنت عارف إن القصر عندنا ضيق وكل واحد من ولادي واخد حجرة.. أصل يا سيدي الكبير مصمم على وراثة الحكم، والصغير قال اشمعنى أنا. عموما لو الظروف سمحت وقدرت أقنع كل اتنين من ولادي يقعدوا مع بعض في حجرة مشتركة صدقني سأتصل بك طبعا". وفي المرة الثالثة سمع الرئيس المخلوع اعتذاراً رقيقاً ممن ظنه صديقه المقرب بدعوى أن ظروف البلد الاقتصادية صعبة والدخل القومي يكاد يكفي الشعب خبزاً بدون طعام، قبل أن يقسم له هذا الديكتاتور بالطلاق بأنه يحرم نفسه من السيجار الكوبي الذي يحبه ويكتفي بالسجائر المحلية العادية توفيرا للنفقات. وفي المرة الرابعة اقترح زميل على الهارب أن يهبط بطائرته في الصومال، موضحا له أنه لا توجد هناك حكومة تسيطر على كل الدولة، وأنه يستطيع أن يختار أي منطقة ويبنى له فيها قصرا بفلوسه التي يحملها معه طبعا على الطائرة، لكنه نصحه بأن يعطى "إكرامية" للقراصنة هناك حتى لا يضايقوه ويخطفوه بقصره طلبا لفدية. ثم يضيف ضاحكا: "طبعا أنا عارف إنهم لو خطفوك.. فلن يجدوا أحدا يدفع لهم مقابل الإفراج عنك..ها ها ها ها".
يشعر الهارب بإهانة كبيرة، ويقسم للسيدة الأولى أن كل هؤلاء الحكام خسارة فيهم لقب ديكتاتور، ويسترجع شريط ذكرياته معهم، وكيف أنه لم يبخل عليهم بعصارة خبرته في أصول احتكار السلطة واحتقار الشعب، ثم يقول لنفسه: "عموماً اِعمل الخير وارمه في البحر.. وأول ما أخلص من المشكلة دي هعرف شغلي معهاهمhellip;". وقبل أن يستكمل تهديداته فارغة المضمون يأتيه صوت قائد الطائرة: "يا فخامة الديكتاتور قبل ما تعرف شغلك معاهم.. خلّـصني أولا مما أنا فيه.. أنا أطير بالطائرة منذ هروبنا قبل 22 ساعة.. لقد تعبت، ثم إن وقود الطائرة أوشك على النفاد.
أسقط في يد الهارب وزوجته وقالا في نفس واحد: "يعني إيه.. الطائرة ستسقط بنا.. ما العمل؟"، يصعب حالهما على حال قائد الطائرة فيقترح الهبوط في جزيرة مهجورة بالمحيط الهندي، على أن يذهب هو نفسه بعد ذلك إلى أي دولة مجاورة يشترى 10 لتر وقود في "جركن". وافق الهارب والسيدة الأولى فوراً، وبعد أن تهبط الطائرة بسلام ويحضر قائدها الوقود اللازم، يفكر الرئيس المخلوع أن يبيتوا ليلتهم في الجزيرة طلبا للراحة، حتى يستطيع تدبر الأمر. وقبل أن يهم بالنوم تلمحه سمكة قرش تعرف قصته، فتستدعي إخوانها الأسماك ويخرجون في مظاهرة حاشدة ضده في المحيط ويخيّرونه بين الهرب من الجزيرة أو أن يبلغوا عنه حرس حدود الدول القريبة.
يهرب المخلوع مرة أخرى بعد "خلعه" من الجزيرة، وأثناء الطيران يتذكر ديكتاتوراً لم يتصل به من قبل، يخرج هاتفه ويطلب رقم الزميل، لكنه فوجئ أن رصيده نفد من كثرة اتصالاته مع السابقين، يطلب هاتف السيدة الأولى، فتخبره أنها نسيته وهى تسرع بالهرب، فلم يجد بدا من طلب هاتف قائد الطائرة، فيقول له الأخير أنه ليس عنده رصيد سوى 2 دولار وأنه سيحتفظ بهم ليطمئن على زوجته والأولاد الذين تركهم بمفردهم في بلده. فيرجوه الرئيس أن يستعيره فقط ليرسل رسالة إلى زميله، وبالفعل بعث رسالة نصها: "كلمني.. شكرا".
بعد عدة ساعات، يتصل به الزميل، ويقول له بلهجة حاسمة إنه استشف مضمون طلبه من الرسالة، وأنه لا يستطيع استضافته، لكنه حرصاً فقط على "العيش والملح" الذي كان بينهما سيقدم له خدمة عظيمة، وقال له: "تستطيع فقط أن تحـّلق بطائرتك فوق أجواء بلدي كلما نفد وقود طائرتك.. وتنتظر فوق بشرط أن تكون الساعة منتصف الليل حتى لا يراك أحد وسأرسل لك مندوبا بالوقود اللازم.. ثم تخرج سريعا من سماء دولتي، وهكذا تعود كلما احتجت شيئا.. وبالمناسبة أكيد إنك على لحم بطنك منذ لحظة هروبك ولذلك زوجتي جهزت لكم عدة سندوتشات هامبورجر.. بالهنا والشفا.
وهكذا يبقى المخلوع بقية عمره محلقا في الجو، وبعدها يستدعى أولاده وزوجاتهم معه على الطائرة.
مرت سنوات ومع زيادة نسل الأسرة تضيق بهم الطائرة، فيلجأ إلى صديقه ليطلب الوقود المعتاد، وطائرة أخرى يعيش فيها الأحفاد!