لبنان... بعد رفع اليد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
وليد نويهض
شهدت الأيام الثلاثة الماضية تداعيات خطيرة في الأزمة اللبنانية المتدحرجة. وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل أعلن من قمة شرم الشيخ الاقتصادية عن رفع السعودية يدها من مبادرة سين سين. الثنائي التركي - القطري الذي كان يقوم بمهمة وساطة بناء على تكليف اللقاء الثلاثي الدمشقي أعلن عن تجميد اتصالاته بسبب انسداد آفاق الحل وصعوبة تجاوز الشروط المتبادلة. وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون طالبت بترك الأمر للفرقاء اللبنانيين معربة عن استعداد واشنطن للتدخل والمساعدة على تذليل العقبات. السفير الأميركي الجديد روبرت فورد قدم أوراق اعتماده لوزير الخارجية السوري وليد المعلم في دمشق.
هل هناك من رابط يجمع بين هذه التداعيات؟ المشهد العام يمكن أن يوحد أجزاء الصورة باعتبار أن الزوايا متداخلة ولا يمكن عزلها عن التطورات المتداعية. فالوزير السعودي الذي رفع يد الرياض من التعاون مع سورية أوضح أن الخطوة لا تعني الانسحاب من لبنان وتركه يتخبط وحيداً من دون عناية ومساعدة، ولكن القرار الذي اتخذ يطرح فعلاً مشكلة موضعية وهي تتصل بإمكان تغيير قواعد اللعبة خارج سياق التفاهم العربي على البدائل. والثنائي التركي - القطري الذي غادر لبنان في فضاء مشحون بالتوتر الطائفي - المذهبي أوضح أنه لا يستطيع الاستمرار في مهمته من دون تعاون محلي من فرقاء الأزمة، ولكن الخطوة تحتاج فعلاً إلى متابعة حتى لا تنزلق الجماعات الأهلية إلى نوع من استعراض القوة يمكن أن يشطر بلاد الأرز إلى كانتونات (حكومات محلية).
هذا الجانب الغامض في السلوك السعودي - التركي - القطري أوضحته الولايات المتحدة في الجانب الآخر من المشهد. فالتصريح الذي أطلقته كلينتون بشأن ترك الحل للفرقاء اللبنانيين يؤشر إلى وجود سياسة أميركية جديدة تحاول التكيف مع المعطيات الميدانية التي يمكن أن تتبلور لاحقاً في بلاد الأرز. فالكلام الأميركي يعني أن تترك القوى المحلية تحسم أمورها ومن ينجح على الأرض ويأخذ زمام المبادرة يصبح هو القوة المؤهلة التي تستطيع التفاوض مع واشنطن. وكلام كلينتون عن ترك الأزمة للقوى اللبنانية لا يمكن فصله عن توقيت تسليم السفير الأميركي الجديد أوراق اعتماده في دمشق في الفترة التي انكشفت خلالها الساحة اللبنانية على معطيات قد تكسر التوازن الأهلي وهدنة الطوائف.
التداعيات إذاً مترابطة بين إعلان رفع يد السعودية من معادلة سين سين، وتجميد الوساطة الثنائية التركية - القطرية، وترك المسألة تتفاعل داخلياً بين اللبنانيين، وأخيراً احتمال تدخل الولايات المتحدة بغية المصالحة بالتفاهم مع بوابة دمشق. فالتداعيات في مجموعها تؤشر إلى بداية تبلور سياسة أميركية جديدة في أسلوب التعامل مع الأطراف اللبنانية وقوى 8 و14 آذار يقوم على معادلة التأقلم مع المعطيات الميدانية من خلال تسوية مباشرة بين أميركا وسورية كما حصل مع إيران في العراق. فهل أصبحت الظروف ناضجة لإبرام تسوية إقليمية على أنقاض بلاد الأرز.
الإجابة تطرح احتمالات متفاوتة وهي محكومة بمقدمات انهيار لبنان والنتائج الميدانية التي ستسفر عنها. والمقدمات حتى تكون صحيحة لا بد من إعادة قراءة تفاعلاتها على مستويين الأول تسووي والثاني تقويضي. المستوى الأول يفترض وجود تفاهم أميركي - سوري مسبق معطوف على مباركة إيرانية يقوم على معادلة تغيير قواعد اللعبة في لبنان بشرط ضمان أمن "إسرائيل" وعدم التعرض للقوات الدولية في الجنوب (يونيفيل) وتأمين مناطق حماية للمسيحيين (حكم ذاتي) وترك ما تبقى من الساحة مناطق مقفلة تدار بغطاء إقليمي - دولي. والمستوى الثاني يفترض وجود قرار بالمغامرة يتجه نحو السيطرة على المناطق المسلمة في لبنان وعدم اختراق المناطق المسيحية وتأمين قواعد انطلاق للتفاهم لاحقاً مع أميركا على أساس معادلة الأمر الواقع.
المسألة إذاً تعود إلى قرار الولايات المتحدة في نهاية المطاف. والإجابة ترتبط بالسؤال: هل تفاهمت دمشق مع واشنطن مسبقاً على إدارة اللعبة في لبنان أم أن التفاهم سيتم لاحقاً بعد تعديل موازين القوى ميدانياً في إطار صفقه إقليمية تلعب فيها إيران دور الراعي من وراء الكواليس؟ حتى الآن يصعب تحديد إجابة واضحة، إلا أن الأمور سائرة كما يبدو بهذا الاتجاه. ومهما كانت النتائج فإنها تخضع في النهاية إلى طبيعة نظام الحكم الذي سيعاد تشكيله في لبنان وكيف سيتم التعامل مع المناطق المسيحية (الحكم الذاتي) والطوائف المسلمة الأخرى وأمن "إسرائيل" والقوات الدولية في الجنوب.
نموذجان يمكن الاعتماد عليهما لتوضيح الصورة المحتمل ظهورها في المستقبل القريب. الأول حال الاستقرار في الجولان والتعايش مع الاحتلال في إطار هدنة طويلة. الثاني حال التساكن مع الاحتلال في ظل هدنة غير معلنة كما هو النموذج القائم في قطاع غزة. فهل لبنان يتجه نحو صيغة تقارب المشهد في الجولان أو سلطة تقارب النموذج في غزة؟ الاحتمالان يحتاجان إلى فترة سماح حتى يمكن ترجيح أحدهما على الآخر. فالأول يتطلب تفاهمات مسبقة وضمانات متبادلة تقوم على تسوية تغلب قوة على أخرى من دون اقتتال. والثاني يتطلب تغيير معادلة القوة ميدانياً وثم التوجه إلى تسوية مع واشنطن بعد مواجهة دموية واحتمال عدوان مدمر على لبنان كما حصل في غزة.
هدنة من دون حرب أو هدنة بعد حرب. الأولى تحتاج إلى تسوية مسبقة في إطار صفقه إقليمية مع الولايات المتحدة، والثانية تتطلب تسوية لاحقه بعد اقتتال وحرب تنتج هدنة غير معلنة مع "إسرائيل".
بين الاحتمال الأول والثاني يقبع لبنان الآن على برميل بارود في فترة تشهد المنطقة متغيرات حاسمة يمكن أن تسهم في إعادة تشكيل السلطة في بلاد الأرز في إطار صفقة إقليمية لن تكون أميركا بعيدة عنها. فالتصريح الذي أطلقته كلينتون بشأن ترك لبنان للبنانيين عشية تسليم السفير أوراق اعتماده في دمشق وفي لحظة مغادرة الوفد الثنائي بيروت على إيقاع إعلان الفيصل رفع يد السعودية عن معادلة سين سين كلها تداعيات تؤشر إلى وجود سيناريو أميركي ليس بعيداً عن استراتيجية التقويض ومشروعات التقسيم في العراق والسودان وفلسطين (الضفة وغزة) وربما لبنان (مناطق إسلامية وأخرى مسيحية).