لبنان... ومخاطر إعادة تشكيل السلطة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
وليد نويهض
يواجه لبنان بدءاً من الأربعاء المقبل مطبات هوائية في غاية الصعوبة والخطورة. في اليوم المذكور سيعرف من هو الرئيس المكلف بتشكيل الوزارة الجديدة في حال قرر رئيس الجمهورية استئناف الاستشارات النيابية بعد تأجيلها مدة أسبوع. وصعوبة الخطوة ليست ناتجة عن حساب الأرقام وتعداد لوائح النواب بل عن التوازن الدقيق في معادلة الاختيار بين مرشح 8 ومرشح 14 آذار. وخطورة الخطوة تبدأ بعد التكليف في اعتبار أن التأليف يحتاج إلى روية في انتقاء العناصر حتى تكون الهيئة المختارة متجانسة مع طبيعة توزع القوى وتكوين الجماعات الأهلية.
الاستشارات، التكليف، والتأليف. ثلاث خطوات تقنية وهي تعتبر عادية لتشكيل وزارة. ولكن المسألة في لبنان تبدو مغايرة للعادة لكون البلد يتشكل من أطياف وألوان تعطيه صفات جمالية مضافة في فترات الهدوء وتوترات غاضبة في فترات الاضطراب.
لبنان الآن يمر في منعطف غاضب رفع من درجة الاستقطاب الطائفي - المذهبي إلى حد بات يتطلب قراءة تستبطن التاريخ والذكريات وتحذر من مخاطر المغامرة واستسهال سياسة القضم والهضم. ولأن المسألة شديدة الخطورة ستصبح المسئولية مضاعفة في حال تورط الفرقاء في تجربة استخدام القوة لتعديل التوازن أو كسره. فالتوازن اللبناني القلق شكل تقليدياً نقطة استقرار تقف السلطة في وسطها لإدارة اللعبة الداخلية ومنع خطوط سير الطوائف والمذاهب من الاصطدام.
السلطة اللبنانية في وظيفتها السياسية تشبه شرطي المرور أو إشارة الضوء على مفترق الطرق من حيث كونها هيئة مكلفة بالمراقبة وتأمين الطرقات والتخفيف من الازدحام والانحشار وتعطيل الوصول في الوقت المناسب.
هل لبنان في وضع مستعد ليعبر عتبة جديدة في تاريخه المعاصر أم سيبقى يستقر وضعه على وقع تمديد عمر هدنة الطوائف؟ المسار يتجه نحو التغيير حتى لو تم تأخير إعلانه رسمياً. والتغيير ليس بالضرورة أن يكون إلى الأحسن والأفضل والأجمل وإنما يحتمل ارتدادات قد تعيد تشكيل سلطته من خلال كسر توازناته الداخلية من طريق القوة والتخويف.
تحطيم النموذج اللبناني مسألة غير مستبعدة وهي مهمة قد تبدو سهلة في حال تم تجاوز الأعراف وتخطي التقاليد والانقلاب على "الديمقراطية التوافقية" وتمزيق التوازن الذي تأسس ميثاقياً.
المسألة سهلة وليست صعبة في تحطيم "النموذج" الذي لم يتوافر له الاستقرار والنجاح بسبب كثرة العصبيات وضعف الدولة وتعثر نظام المحاصصة. إلا أن الصعوبة تبدأ في الخطوة اللاحقة التي تتطلب إعادة التوافق على البديل في ظل الغلبة والقهر. فهل يعبر لبنان هذه العتبة ويدخل في المجهول أم تنجح القوى الغالبة في تشكيل سلطة تأخذ على عاتقها إعادة هيكلة النظام في إطار ديموغرافية طائفية تغير صورة بلاد الارز.
هناك مخاطر ومخاوف واحتمالات. وكل هذه السلبيات ناجمة أصلاً عن ميزان القوة. وتوازن القوى يؤدي دائماً إلى نوع من ازدواجية في السلطة. فالازدواجية بين الطوائف والمذاهب والكتل النيابية فرضت سياسة الاحتواء والاستيعاب وأسست حياة تقوم على التساكن والتعايش والائتلاف. والازدواجية بين الجيش والمقاومة أنتجت هدنة سياسية تقوم على الاعتراف المتبادل بوظيفة كل فريق. والازدواجية بين الهوية العامة (الجامعة) والهوية الخاصة (الطائفة أو المذهب أو المنطقة) ساهمت في توليد أعراف تحترم التوافق ولا تتدخل في خصوصية كل فريق.
التوازن الزئبقي القلق لعب دوره التاريخي في نسج سلطة مرنة تقوم على مبدأ الائتلاف ضمن وحدة متعارضة ومتعايشة في آن. وهذا الأمر كان يتطور ويتعدل في محطات زمنية فيتأرجح بين القبض (الشدة) والبسط (المرونة) حتى لا يخرج القطار عن سكته.
كسر التوازن خطوة سهلة ولكنها في تداعياتها مسألة ليست بسيطة بوصفها قد تشكل قفزة في مجهول لا يعرف مقره أو مستقره. ومن هنا تأتي المخاطر والمخاوف والاحتمالات.
المخاطر تبدأ من الداخل لأن تحطيم معادلة التوازن قد تسفر عن خلل أهلي يستدعي استنفار الطوائف واستنهاض المذاهب وتشكيل جبهة مضادة يصعب احتواء انفعالاتها بالقوة العسكرية. والمخاوف تأتي من الأقاليم والمحيط القريب والبعيد ما يؤدي إلى نوع من الانزلاق نحو مصادمات أو تدخلات تتجاوز حدود بلاد الارز. والاحتمالات المتوقعة لكل مغامرة لا يمكن إحصاء نتائجها في حسابات رقمية بسيطة لكون المحصلة أكبر واعقد من القراءات المتسرعة والساذجة.
إعادة تشكيل السلطة في لبنان ليست قراراً يمكن أن تتخذه مجموعة برلمانية أو كتلة حزبية أو تحالفات ورقية بين مجموعات تتوهم بأن القوة هي القابلة الوحيدة لتغيير التاريخ. فالعنف يساهم في الدفعة الأولى في تعديل هندسة الصورة إلا أنه ليس كافياً لإعادة ترسيم الخريطة السياسية للبشر. وخطورة العنف في بلد يتكون من فسيفساء طائفية ومذهبية ومناطقية انه يستدعي تدخلات أكبر وأوسع من الخارج نظراً لطبيعة امتدادات الجماعات الأهلية في المحيط الإقليمي والفضاء الدولي.
إعادة تشكيل السلطة في بلد شديد التركيب والتعقيد والتشابك تتطلب مجموعة توافقات محلية وإقليمية ودولية كما حصل خلال فتنة 1840 وفتنة 1860 في جبل لبنان بين الدروز والموارنة. فالتصادم آنذاك فتح نوافذ السلطنة العثمانية على البحر المتوسط وأدخل الدول الكبرى السبع في القرن التاسع عشر في تنافس أنتج أنماطاً من الصيغ الدستورية حتى تنسجم مع طبيعة المعاش السكاني. والأمر نفسه احتاج إلى الحرب العالمية الأولى وغياب السلطنة العثمانية عن الخريطة السياسية للجغرافيا وفترة زمنية امتدت 60 عاماً حتى استطاع الانتداب الفرنسي تغيير المساحة اللبنانية وإعادة تشكيل السلطة في العام 1920.
المسألة إذاً ليست بسيطة وتحتاج فعلاً إلى إعادة قراءة والانتباه إلى تفصيلات المخاطر والمخاوف والاحتمالات. فالتغيير يتطلب عقلية تسووية قادرة على احتواء كل الانفعالات والاحباطات، معطوفة على غطاء إقليمي وموافقة دولية، ورعاية إنسانية - اقتصادية تعوض كل الخسائر التي قد تنجم عن العنف أو عن الفشل. فهل لبنان في وضع مستعد لتقبل العبور إلى عتبة جديدة في تاريخه المعاصر؟ المسألة كما تبدو الصورة غير ناضجة وليست مناسبة لا في الأسبوع المقبل أو بعده.