جريدة الجرائد

المخمل يأتي متأخراً

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

غسان شربل


لا الرئيس زين العابدين بن علي أغراه التقاعد، ولا الرئيس عمر حسن البشير يحبه. لقب فخامة الرئيس السابق ليس لذيذاً، وليس جذاباً، ولا يحمل عزاء كافياً. إنه مطبوخ برائحة الخسارة، وانفضاض جوقة المداحين، وغياب فلاشات المصورين، ومحاولات المستشارين غسل أيديهم.

الإقامة في قصر الرئاسة نوع من الإدمان، لا النصائح تسعف في الاقلاع عنه، ولا الوخز بالإبر الصينية. السلطة منجم مُبْهِر، لا يدرِك مُتَعَه إلا من ارتاده. ولم يُعرف الرؤساء العرب برغبتهم في التفرغ لتدبيج المذكرات، هم يفضّلون الاستمرار في صناعة التاريخ على التفرغ لكتابته. يتظاهرون بتقدير شارل ديغول ولا يستسيغون المخارج الديغولية. لا الرئيس يبهجه لقب "السابق"، ولا سيدة القصر تحب لقب "السيدة الأولى سابقاً".

أكتب بعدما قرأت تصريحات للرئيس عمر حسن البشير أعجبتني وأطربتني. قال: "لن نقيم سرادق عزاء" اذا اختار اهل جنوب السودان الانفصال. وأكد أنه لا يخشى انتفاضة السودانيين عليه، وأنه في حال حدوث ثورة شعبية مماثلة لما جرى في تونس، فإنه سيخرج الى شعبه ليرجم بالحجارة، وقال انه لن يغادر إذا ثار المواطنون ضده. وأضاف : "سنبقى هنا ونُدفن في هذه الارض... عندما نعلم بأن الشعب لا يريدنا سنترك الحكم من دون ان يقول لنا أحد غادِروا".

أعجبني كلام الرئيس السوداني. لولا التجارب الطويلة في العالم العربي وعواصمه لأخذت الكلام بحرفيته. انه كلام ناعم يمكن ان يقوله رجل من نوع توني بلير. ثم ان حديثه الودي السلس عن رحيل الجنوب ذكّرني بالطلاق المخملي الذي اسفر عن ولادة دولتين على انقاض تشيكوسلوفاكيا ومن دون مليون قتيل او ضربة كف.

كلام مخملي قاله الرئيس الذي ستتقلص خريطة بلاده في عهده. كانت الأحداث ستأخذ بالتأكيد منحى مختلفاً لو ان "ثورة الإنقاذ" غرفت من قاموس المخمل قبل عقدين. الأمر ذكرني أيضاً بالخطاب المخملي الذي ألقاه الرئيس زين العابدين بن علي قبل تحلُّل نظامه: تعهد بألاّ يعاقب شعبه بالإقامة في القصر مدى الحياة، ولام المستشارين والمبخرين، وقال للمحتجين "لقد فهمتكم"، مستعيداً كلام ديغول. لكن المخمل المتأخر لم ينفع في احتواء غضب الناس، وكان ما كان. صار اسمه فخامة الرئيس السابق. فخامة الرئيس الهارب.

العقيد معمر القذافي ثاقب الذكاء. بكَّر في بلورة صيغة سحرية. ليس رئيساً، لا ولاية، ولا معنى لتجديد او تمديد. انه قائد الثورة، والثورة لا تشيخ، ولا تتقاعد، ولا تستقيل. موقفه من العاصفة التي ضربت جاره التونسي كان صريحاً، لا يحتاج الى المخمل.

السلطة إدمان، وصاحب السلطة عاشق لا يخون. ومع ذلك يتعرض الصحافي العربي لمواقف لطيفة، كأن يقول له الرئيس بجدية مفرطة وبوح آسر إنه ينتظر موعد نهاية ولايته، وإنه يتحرق شوقاً للاجتماع بأولاده وملاعبة احفاده، وإن ما أبقاه حتى الساعة في موقعه هو اصرار الناس وحاجة البلد اليه. والرئيس يعرف القصة، فهو مهندسها، والصحافي يعرف القصة وشبيهاتها. يبتسم الثاني تقديراً للاعتراف. يرد الاول مبتسماً، فهو يعرف ان الصحافي يعرف. وينشر الصحافي حديث الزهد فيبتسم القارئ.

لا احد يحب المخمل ولو متأخرا. لا احد يحب لقب الرئيس السابق. يتجاهل الرؤساء أن قاتلاً كبيراً دخل حديقة القصر. واسم هذا القاتل ثورة الاتصالات. من يرفض لقب الرئيس السابق يعرض نفسه لعقوبات أشد. من يرفض المخمل المتأخر يجازف بمصير غير مخملي لنفسه ولبلاده.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
Nice
Jan -

ذا كلام رائع جدا ويشبه أدباً راقياً. أصبت كبد الحقيقة في وصف الحالة يا أستاذ غسان

Nice
Jan -

ذا كلام رائع جدا ويشبه أدباً راقياً. أصبت كبد الحقيقة في وصف الحالة يا أستاذ غسان

شهوة الحكم
أحمد توفيق -

شهوة الحكم موجودة في الدول العربية ودول العالم الثالث، ذكرني مقالك بحادثة تعرضت لها في لندن منذ حوالي 25 سنة عندما كنت مترأس وفد الشركة لمقابلة عدة شركات إستشارية لدراسة أيهم تناسب تطلعات شركتنا للعمل في دول الخليج العربي للقيام بدور بيت إستشاري للشركات والمصانع وحتى الوزارات في هذه الدول وتقديم الخدمات اللآزمة (إدارة الجودة)، فوجئت بعد جولتنا الطويلة التي إمتدت لفترة الشهرين تقريباً أنني الوحيد (كرئيس للشركة) ومالك لها أيضاً بينما جميع المدراء العامون ورؤساء الشركات الذين قابلناهم هم من الموظفين، وبالنسبة لبيل غيت المشهور هو مدير فني وتقني بشركته بينما المدير العام هو محام (صديق لبيل)، الجميل في الغرب هو وضع الشخص المناسب في المكان المناسب بغض النظر إن كان هو المالك للشركة أم لا، وقس ذلك على الوزارات والحكومات وعلى الرئاسة وشكراً

شهوة الحكم
أحمد توفيق -

شهوة الحكم موجودة في الدول العربية ودول العالم الثالث، ذكرني مقالك بحادثة تعرضت لها في لندن منذ حوالي 25 سنة عندما كنت مترأس وفد الشركة لمقابلة عدة شركات إستشارية لدراسة أيهم تناسب تطلعات شركتنا للعمل في دول الخليج العربي للقيام بدور بيت إستشاري للشركات والمصانع وحتى الوزارات في هذه الدول وتقديم الخدمات اللآزمة (إدارة الجودة)، فوجئت بعد جولتنا الطويلة التي إمتدت لفترة الشهرين تقريباً أنني الوحيد (كرئيس للشركة) ومالك لها أيضاً بينما جميع المدراء العامون ورؤساء الشركات الذين قابلناهم هم من الموظفين، وبالنسبة لبيل غيت المشهور هو مدير فني وتقني بشركته بينما المدير العام هو محام (صديق لبيل)، الجميل في الغرب هو وضع الشخص المناسب في المكان المناسب بغض النظر إن كان هو المالك للشركة أم لا، وقس ذلك على الوزارات والحكومات وعلى الرئاسة وشكراً