زين العابدين الركابي و عصمت الموسوي:في أسباب الاحتجاجات..خبز وأمن وحرية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
هل فهم بعض الناس، بل كثير من الناس شعار "الفوضى الخلاقة" على طريقتهم، فقرروا مباشرة الاحتجاجات في بلدان عربية مثل تونس ومصر والأردن واليمن لكي يتولد عن هذه الاحتجاجات مكاسب شعبية في ميادين الحرية والمعايش والخدمات، أي لكي تنجب الاحتجاجات أوضاعا جديدة أفضل؟! هل هذا سبب من أسباب موجات الاحتجاجات والانتفاضات الماثلة؟ هذا سبب مستبعد أولا: لأن الفوضى - بتعريفها الموضوعي - لا تنتج "نظاما" ولا وضعا جديدا يؤدي إلى نظام جديد.. ثانيا: لأن المحتجين في جميع تلك البلدان ليسوا منبهرين بأميركا، ولا مولعين بتقليدها (ولا سيما بعد أن أطفأ قادتها الصغار لمعة مبادئها الكبيرة) بل الواضح أن نبرة نقمة على أميركا تتبدى في حراكهم: في هذه الصورة أو تلك.
والعدول عن اعتماد هذا السبب: يزيد بل يضاعف مسؤولية البحث عن أسباب أخرى: أقوى موضوعية، وأبهى وجاهة:
1) من أسباب ما يجري: ترك وإهمال ما هو "اختياري" من الخطط والأفعال والإصلاحات والقرارات تركا، يؤدي إلى ما هو "اضطراري"، أي مباشرة هذه الأفعال والقرارات تحت ضغط الاضطرار، وهو اضطرار مثقل بالحرج، وقلة الجدوى، وقسوة المعاناة، وفداحة التكاليف: الاجتماعية والسياسية والأمنية.
وقد خلت المثلات من قبل.. فمعظم الأنظمة التي سقطت لم تكن مصرة - إلى آخر لحظة - على أخطائها أو خطاياها، بل على عكس ذلك فقد باشرت - في أواخر سنيها - الإصلاح المطلوب.. فعل ذلك قيصر روسيا قبيل الثورة البلشفية.. وفعل ذلك فاروق مصر قبل ثورة 1952.. وفعل ذلك شاه إيران قبيل رحيله.. وها هو بن علي قد أعلن - بالاضطرار - ما كان في وسعه أن يفعله بالاختيار.. أعلن: أن لا رئاسة مدى الحياة، وأن الضائقة الخانقة في معايش الناس سترفع، وأن حرية الإعلام ستكفل، وأن الفساد سيجتث، وأن المعتقلين السياسيين سيفرج عنهم.. ومنذ قليل سمعنا الرئيس اليمني يعد: بأن لا رئاسة مدى الحياة، وأن "لا توريث" في الرئاسة.. وفي السياق نفسه أعلنت الحكومة اليمنية زيادة رواتب الموظفين، وأن هناك برامج لمعالجة جنون الأسعار.. وفي مصر تحدث رموز في الحزب الحاكم عما يجري فيها: تحدثوا عن "ميثاق وطني" يتعاون من خلاله الحزب الحاكم مع الأحزاب الأخرى على القضايا الوطنية الأساسية. كما ومض وميض يبشر بمعالجة ناجزة لمشكلات الفقر والبطالة والفساد، و"تفهم مطالب الشباب". وليس من حق أحد أن يعترض على من يعلن التراجع عن الخطأ. بيد أن السؤال المركزي - هنا - هو: لماذا تفضيل "الاضطرار" على "الاختيار"؟.. ما علة هذه الرغبة الجامحة في جلب العنت والمشقة والكرب على الذات؟.. أهي "التسويف" القاتل؟.. أم هي تخدير الذات بالتغافل عما يجب فعله؟.. أم هي فقدان الشعور بحاجات الناس وهمومهم؟.. والنتيجة المستنبطة في هذه النقطة هي: عقد العزم على مباشرة ما هو مطلوب بـ"الاختيار" لئلا يحصل الوقوع في ورطة "الاضطرار" المحرج والقاسي والعالي التكاليف.
2) السبب الثاني في ما جرى - ويجري - في بلدان عربية هو: "الاستيعاب الناقص" لـ"ثورة الاتصالات" وآثارها العميقة في المجتمعات والدول.. فيبدو أن كثيرا من القيادات السياسية في عالمنا هذا - ومنه الوطن العربي - لم تستوعب بالقدر الكافي الضروري تداعيات وفعاليات ثورة الاتصالات. وهذا جهل سياسي فادح ترتب عليه ما نراه اليوم من حراكات هائلة، وما سوف نراه في المستقبل مما يفوق التصور والخيال..
لقد بدل "سلطان العلم" أوضاع البشرية تبديلا، إذ قضى على أوضاع قديمة ذات حجب وفواصل وعوازل، وأنشأ عوالم جديدة ذات نوافذ متنوعة منسوجة من المعارف المفتوحة السقوف والآفاق بلا نهاية، وفي طليعتها "تكنولوجيا المعلومات" المرفودة والممددة بـ"ثورة الاتصالات" الشخصية والجماعية. فالإحصاءات تقول: إن أكثر من ملياري إنسان يستعملون الإنترنت، وإن خمسة مليارات إنسان يستخدمون الجوال.. وللوطن العربي قسط وافر من ذلك كله: قسط يعد بالملايين أو عشرات الملايين.. والخيارات تجاه هذه الحقيقة العلمية الراسخة هي: خيار أو محاولات الحجب والمنع وهي محاولات يمكن التغلب عليها تكنولوجيا أيضا.. يضم إلى ذلك أنها محاولات تصنف في قائمة "معاداة العلم والتكنولوجيا".. وهناك خيار "تجاهل" أثر هذه الاتصالات الاجتماعي والأمني والسياسي، وهو تجاهل أدى - بالتأكيد - إلى ما تموج به أوطان عربية من احتجاجات وانتفاضات.. وهناك خيار الإقرار بسلطان العلم والتعامل معه بما يلائمه.
3) السبب الثالث وراء ما يجري هو: عدم تفهم "الوعي الجديد والنوعي" لدى الأجيال الناشئة.. فمن خلال نوافذ متعددة، منها كوكبية المعلومة وآلية تعميمها وسرعة وصولها، من خلال هذه النوافذ تكوّن لدى الأجيال الجديدة وعي جديد، ربما يرجح ما كوّنته فيه المناهج والبرامج التربوية والثقافية والوطنية.. ويتطلب التعامل الموضوعي الناجح مع هذا الوعي الجديد سلوكات سياسية معينة، منها: مخاطبة الشباب بما يتناسب مع معدلات وعيه.. والاستجابة لاحتياجاته المحترمة بلا تحايل ولا استخفاف.. والكف عن التعامل معه على أساس أنه مجموع بشري تحركه الغرائز والتفاهات.. ومن الغباوة الإعلامية التي تبلغ مبلغ الجريمة - الاجتماعية والفكرية والأمنية والسياسية - أن تزعم وسائل إعلام أن الأجيال الجديدة تافهة غارقة في شهواتها ولهوها فحسب. وبناء على هذه الفرية الغبية - وإن كانت مريحة ماديا - تصاغ برامج ومسلسلات إعلامية وفنية تخاطب الشباب وتتعامل معه.. وربما كان هذا التقويم الخاطئ نفسه - لأوضاع الشباب - سببا من أسباب انخراطهم في الانتفاضات الحاصلة.. فمما يستفز الكريم أن تخاطبه على أساس أنه ذو اهتمامات صغيرة أو تافهة.
4) السبب الرابع وراء ما يجري هو التقصير الشديد في حماية المجتمعات من الآثار المدمرة الناتجة عن الأزمة العالمية: الاقتصادية والمالية.. فليس معقولا - ولا مقبولا - أن تؤثر تلك الأزمة في المجتمعات المتقدمة اقتصاديا بعمق وفداحة، ولا تؤثر في المجتمعات العربية، أو تؤثر فيها "تأثيرا طفيفا" كما قيل!!.. منذ أيام حذرت "الفاو" من أزمة غذاء تهدد استقرار العالم. وقال مدير هذه المنظمة: "إن الفقراء هم أكثر من سيتأثر بانعدام الأمن الغذائي.. مما سيؤدي إلى عدم استقرار سياسي في بلدان عديدة ويهدد السلام والأمن العالميين".. فما هي خطط الدول العربية تجاه الأزمة الطاحنة؟
خبز وأمن وحرية
عصمت الموسوي
الأيام
يتساءل المرء وهو يرى الثورات العربية المندلعة في اكثر من قطر عربي: هل فشل مشروع دمقرطة المنطقة على الطريقة الامريكية الذي انطلق منذ عدة سنوات تحت مسمى "المبادرة الامريكية للشراكة في الشرق الاوسط" أم أن هذا المشروع بالذات والذي تزامن مع ما سمي بالحرب على الارهاب هو الذي أخر انطلاق الثورات الشعبية الحقيقية التلقائية النابعة من المظالم والجوع والاستفراد بالحكم والاستئثار بالثروات؟ لتنشيط ذاكرة القراء أعيدهم الى تلك المبادرة التي جاءت بتكليف من الرئيس الامريكي الاسبق جورج بوش الابن في مطلع ولايته الاولى، تلك المبادرة التي رمت الى الانفتاح السياسي والاصلاح الاقتصادي والتعليمي ودعم سيادة القانون وضمان اجراء الانتخابات الحرة المنصفة وبناء المؤسسات الديمقراطية وتدعيم وتقوية المجتمع المدني ومساعدة وسائل الاعلام المستقلة، وتكوين وتطوير بيئة للمنافسة في مجال التجارة العالمية وزيادة النمو في المشاريع الصغيرة ومتوسطة الحجم واجتذاب وتنشيط الاستثمار المباشر المحلي والاجنبي وتعزيز الجودة في التعليم ومنح المرأة كامل حقوقها القانونية وتمكينها من ممارسة تلك الحقوق، وتأسيس الشبكات والمنظمات وشبكات الاتصالات الداعمة لكل ذلك.
المبادرة الامريكية في الشراكة كما يوحي اسمها تتلخص في التالي "تشترك الدول العربية مع الولايات المتحدة في حربها ضد الارهاب في مقابل" عسل الشراكة الديمقراطية والتجارية مع الولايات المتحدة "في هذه الفترة انطلقت النداوات وورش العمل في مختلف المواضيع المتعلقة بالديمقراطية والاصلاح السياسي من الجزائر الى الامارات المتحدة مرورًا بمصر والمغرب والاراضي الفلسطينية وتونس واليمن والبحرين والعراق والاردن وعمان وقطر وسوريا والسعودية، ورغم ان ثمة مشاريع محدودة قد تمخضت عن هذه المبادرة إلا ان الكثيرين وجدوها بعيدة الى حد كبير عن الاحتياجات الحقيقية للمنطقة اذ نأت عن معالجة اكبر معضلاتها "كالقضية الفلسطينية"، كما بدت علوية ونخبوية واستفادت منها شرائح صغيرة، والاهم انها شغلت الصحف والاعلام ببرامجها في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة منغمسة في ملاحقة الارهاب وتطويق مرتكبي حادثة11 سبتمبر والحرب على افغانستان وتدمير السلاح الشامل في العراق، والمتأمل يرى ان منطقتنا قد شهدت في هذه الفترة الوجيزة اربع حروب متتالية، فبعد افغانستان والعراق جاءت الحرب الاسرائيلية على غزة ثم الحرب على لبنان، كل ذلك ونحن ننتظر عسل الشراكة.
وقد ارتاح النظم العربي الرسمي لبرامج الشراكة هذه، اذ شغلت المجتمع المدني والاحزاب والنقابات والنساء بفعالياتها التي رعاها الامريكان وخبراؤهم في مختلف التخصصات وتأجل الاستحقاق العربي الكبير في الملف السياسي والحقوقي والحريات وتداول السلطة والمحاسبة والمساءلة، استبدلت الجمهوريات دساتيرها وكرست التمديد والتأبيد والتوريث ومأسسة الفساد والاحتكار واعتبر الفقر قدرًا لا راد له ، وتحت راية المحافظة على الاستقرار والامن والخشية من الفوضى والانفلات والثورات العشوائية وصعوبة ايجاد البديل الذي قد يكون "اسلاميًا" ينفر منه الغرب ولا يتقاطع مع مصالحه، قمعت الكثير من الاحتجاجات والثورات في مهدها، ومورست الانتهاكات الحقوقية والتزوير في الانتخابات، وبدا وكأن رعاة الشراكة الامريكية خاصة والغربية اجمالاً، اما انهم يباركون هذه المسلكيات غير الديمقراطية او يغضون الطرف عنها خشية على مصالحهم، لكن السنوات الاصعب اقتصاديًا وسياسيًا في المنطقة العربية قد ازفت مع ارتفاع الاسعار ورفع الدعم وشحة الوظائف، الثورة التونسية حققت انتصارها حين تركت تتفاعل وحدها دون قمع او كابح خارجي فبلغت مداها في بضعة اسابيع واطاحت برأس النظام.
إن المتجول في الشوارع العربية المليئة بالعاطلين والمهمشين والمسحوقين يلحظ ان تحت الرماد وميض نار تنتظر الفرصة السانحة للاشتعال، إن احدًا لا يستغرب اندلاع الثورات العربية بل يستغرب تأخرها، وان مما لاشك فيه ان مبادرة الشراكة اجلت الثورات لكنها على محدوديتها احدثت نوعًا من الوعي السياسي ورفعت سقف حرية التعبير وتبادل المعلومة، لكن كان من الطبيعي ان يلي ذلك السؤال الاكبر " اين هو وعد الحرية والمشاركة والمساواة وتداول السلطة واقتسام رخاء ونعيم النمو الذي ظل حكرًا على فئات قليلة ومحدودة في كل الارض العربية؟.