لم يعد... "شعبُ مصر لمن غَلَب"
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
سركيس نعوم
الشعب المصري تحرك كثيراً وفي الشارع من اجل المطالبة بحقوقه وخصوصاً في النصف الاول من القرن الماضي. وتركزت مطالبه في معظمها على مقاومة الفساد الذي استشرى في العهد الملكي، والذي كان من اسباب هزيمة جيش مصر في مواجهة الاسرائيليين عام 1948. كما تركزت على مقاومة النفوذ الاستعماري الغربي سواء داخل مصر او حتى داخل الاسرة الحاكمة، وعلى التمسك باستعادة القرار الحر والمستقل من اصحاب هذا النفوذ، وبجلاء الجيوش الاجنبية عن ارض مصر، وبحق مصر في السيطرة على مقدراتها ومرافقها العامة وفي مقدمها قناة السويس. لكن هذا الشعب امتنع عن التحرك السياسي والشارعي الا في مناسبات محدودة منذ قيام الثورة الناصرية عام 1952، وإرسائها نظاماً في مصر حقق الكثير من المكاسب لشعبها وخصوصاً على الصعد التعليمية والثقافية والاقتصادية والحياتية، كما مكَّنها من اكتساب زعامة الجماهير في كل العالم العربي، والكثير من التأثير في العالم الاسلامي، مع كثير من الاحترام في دول العالم الثالث. لكنه (اي النظام) ابتعد عن الديموقراطية، ومسَّ الكثير من الحريات، واطلق يد الاجهزة الامنية والمخابراتية كي تتحكم بالشارع وتقيه مفاجآته. واستمر هذا النظام سارياً في مصر حتى بعد رحيل مؤسسه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، واثناء حكم خلفه (الراحل) انور السادات، ثم خلف السادات الرئيس الحالي حسني مبارك. وتمتد هذه المرحلة نحو 58 سنة. وخلالها لم يتحرك الشارع المصري الا مرات قليلة جداً. اولاها كانت احتجاجاً على غزو اسرائيل وفرنسا وبريطانيا مصر عام 1956 ودعماً لـ"الزعيم الاسمر" عبد الناصر في مواجهة الاستعمار. وثانيتها، كانت لوداعه بعد وفاته في ايلول 1970. وثالثتها، كانت احتجاجاً على سياسات اقتصادية واطلق عليها في حينه، عام 1970 على الارجح، ثورة الخبز. أما الرابعة، فهي التي بدأت قبل ايام والتي تبدو اكثر خطراً من سابقاتها على النظام الحاكم بل على الاسرة الحاكمة نظراً الى تشعب اسبابها وترابطها في الوقت نفسه. طبعاً لا يعني ذلك ان مصر لم تشهد تحركات شعبية اخرى خلال المدة الطويلة المذكورة اعلاه. لكنها كانت اقل خطورة، واكثر موضعية، وتالياً اكثر تقبّلاً للعلاج سواء المخابراتي او الامني او الفعلي الرامي الى ايجاد حلول لها.
ما هي اسباب التحرك الشعبي المصري الاخير الذي يبدو انه يُهدِّد للمرة الاولى نظام مصر وحكم رئيسها حسني مبارك الذي امضى قرابة 30 سنة في السلطة حتى الآن، والذي يعمل كل ما في وسعه منذ سنوات لتوريث ابنه جمال السلطة؟
يعتقد بعض المحللين والباحثين الاميركيين وغيرهم ان انتفاضة تونس، بل ثورتها العفوية التي اطاحت في اقل من شهر الرئيس زين العابدين بن علي ونظامه الديكتاتوري، كان لها اثر محفِّز جداً عند الجماهير المصرية التي قالت لنفسها انها تستطيع التغيير هي الاكبر عدداً بما لا يقاس من جماهير تونس والاكثر بؤساً منها بما لا يقاس ايضاً، وتالياً الاكثر قدرة على تحقيق الاهداف، لكن هذا البعض يعتقد ايضاً ان للاقتصاد دوراً مهماً في دفع المصريين الى النزول الى الشارع. فشباب مصر يشكّلون 70 في المئة من شعبها، وهم يعانون البطالة باكثريتهم سواء في ادارات الدولة، او في القطاع الخاص المتطور حيث لا يتناسب تعليمهم مع المؤهلات التي يتطلبها العمل فيه. ونسبة عالية من شعب مصر تعيش على ما يقدّر بأربعة دولارات اميركية يومياً، علماً ان كلفة المعيشة فيها ارتفعت على نحو جنوني. فضلاً عن ان الحكومات المصرية المتعاقبة طبَّقت سياسات اصلاح اقتصادي استحقت تصفيق المسؤولين في صندوق النقد الدولي، لكنها استحقت في الوقت نفسه لعنات الجماهير المصرية وغضبها، ولا سيما القسم الذي رفع الدعم عن سلع حيوية واساسية لا يستغني عنها المصريون ولا سيما منهم فقراؤهم.
ويعتقد بعض آخر من الباحثين والمحللين الاميركيين وغيرهم ان ارتفاع نسبة التعليم في اوساط شباب مصر، سواء كان تعليماً عادياً اي تعليم المدارس الحكومية، او تعليماً متقدماً اي تعليم المدارس والجامعات الخاصة، عرّف هؤلاء الشباب الى الاعلام ليس التقليدي فحسب بل المتقدم والالكتروني، ومكّنهم من معرفة ماذا يجري في العالم وماذا يجري من حولهم، واتاح لهم التواصل في ما بينهم والتفاهم اذا دعت الحاجة، كما حصل في الايام الماضية، على الانتفاض ضد الظلم والجوع والفقر والتحجُّر وما الى ذلك. ويعتقد بعض ثالث من المحللين والباحثين الاميركيين انفسهم ان "الاخوان المسلمين"، اقوى الحركات الحزبية الدينية في مصر واكثرها شعبية، كان لهم دور في الانتفاضة المصرية المستمرة ولكن بجمهورهم وليس بقيادييهم، و"بقرار" اتفق على ان يوصف بالعفوي منهم لاسباب عدة ابرزها معرفة قيادة الاخوان ان تورطهم رسمياً وبكل قوة في ما يجري سيدفع النظام الى ضربهم بقوة مصوراً بذلك وللعالم كله وللمصريين انه يكافح "الارهاب الاسلامي الاصولي". وقد يمكّنه ذلك من انقاذ نفسه وخصوصاً اذا نجح في استعداء قطاعات شعبية مصرية ليبرالية واسعة على "الاخوان".
هل تتحول الانتفاضة العفوية في مصر ثورة او هل تنجح في تغيير النظام كما حصل في تونس؟
لا بد من القول ان ما يجري في مصر من شأنه "وأد" المقولة التي اعتبرت شعبها من قديم الزمان سلبياً لا يتحرك حتى للمطالبة بحقوقه، والتي اختصرها البعض بالقول المأثور: "ان مصر نيلها ذهب ونساؤها لُعَب وشعبُها لمن غَلَب". او على الاقل ان من شأن ما يجري شطب القسم الاخير من هذا القول، والتأكيد ان شعب مصر حر ويتحرك بقوة لدى تعرّضه للظلم. اما بالنسبة الى نجاح الانتفاضة في التحوّل ثورة ناجحة فان احداً لا يجزم بذلك، أولاً لأن مصر غير تونس رغم ان المظاهر والاعراض في البلدين تتشابه كثيراً. ويظهر الاختلاف في نظام مصر المرن رغم ديكتاتوريته وشموليته. ويظهر ايضاً في المؤسسة العسكرية المصرية القوية والضخمة والمُحترَمة من المصريين. وليست هذه حالها في تونس. ويعني ذلك، على الاقل حتى الآن، ان حظوظ المنتفضين في قلب مبارك ونظامه غير قوية، لكن ما حققه هؤلاء حتى الآن ايضاً هو انهم دقوا جرس الانذار لـ"الحزب الوطني الديموقراطي" الحاكم، ولزعيمه مبارك واحبطوا آمالهما في تأمين انتقال هادىء وسلس للسلطة من الاخير الى ابنه جمال، وان الشعب المصري لن يكتفي بعد الآن باجراءات اقتصادية ذات طبيعة استهلاكية لا بنيوية يتخذها النظام لامتصاص النقمة. وهم ربما يحققون في الايام المقبلة امراً ثالثاً هو اطلاق عملية الاصلاح الفعلي. اما اذ لم يحصل ذلك كله، فإن مصر قد تدخل مرحلة عدم استقرار طويلة مؤذية لها وللمنطقة والعالم. وذلك امر لا يتساهل معه قادة الاثنين. ولذلك فانه قد يُفسِح في المجال امام التغيير الآمِن. ولا يقوم بتغيير كهذا في مصر الا الجيش.