"الربيع العربي" والمسار الفلسطيني
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
طيب تيزيني
كانت المرحلة الأخيرة، التي سبقت اشتعال "الربيع العربي"، قد أفصحت عن نفسها، بالنسبة إلى المستشرق والباحث العربي الآخِذَيْن برؤية منهجية لا تاريخية، بما يقترب من "ورقة نعْي" للمجموعات العربية الراهنة، ولا نقول للنظم "السياسية" العربية. فالسياسة كانت قد سُحبت من معظم المجتمعات العربية بدءاً من إخفاق الوحدة بين سوريا ومصر التي قامت عام 1958، وقبل ذلك بالنسبة لمجتمعات عربية أخرى، ربما لم تعرف السياسة، من حيث الأساس. إذ بدلاً من السياسة، بمعنى (تدبير المدينة القائمة على التعددية والحرية)، مارست الانقلابات العسكرية والعشائر والقبائل والطوائف وغيرها، الوظائف المطلوبة. لكن مجموعة من التحولات التي كانت تطرح نفسها هنا وهناك من المجتمعات العربية، انطلقت من مرحلة ما بعد الاستقلالات الوطنية، خصوصاً على صُعُد الثقافة والتعليم والاقتصاد والحراك الاجتماعي المفتوح، مع انفتاح على تجارب الشعوب، مِما أنتج نمطاً من النظم السياسية الليبرالية بحامل اجتماعي حيوي، تمثل في الطبقة الوسطى.
لكن ذلك وما جاء معه في مرحلة النفط السياسي انطلاقاً من السبعينيات، راح يخترق النظم العربية ويؤسس لحالة معقدة من الفساد والإفساد تدعمها سيولة مالية متصاعدة من ريع النفط المتدفق، بحيث راحت أطراف من الغرب الاستعماري تسعى لفتح مواطئ قدم لها في "عالم الشرق، عالم العجائبية والنفط"، والمسألة تسلك مسارها على هذا النحو، مُرافَقةً بواحدة من أكثر المشكلات المعلقة اضطراباً ومأساوية وخذلاناً، نعني مشكلة فلسطين. وعلينا أن نتبع هذه المشكلة المعلَّقة حتى الآن، منذ ستة عقود ونيّف، يداً بيد مع تعاظم أدوار ذلك النفط "السياسي" في العالم عموماً ومع ما سينتج عن ذلك من عقابيل كبري، مثل تغييب الفكر السياسي والمدني العلماني ونشأة نمط أو أنماط من الفكر الديني المتزمّت، إلى المتشدد والظلامي المغلق، فالتكفيري المحارب، وغيره.
فمع تحول قضية فلسطين إلى "نكبة أولى عظمى"، وبروز حلول عربية لها تأتي من واقع هذه النكبة ومع نشوء "فكر تحريري" وطني وقومي وعلماني وماركسي...إلخ، كان الفكر الديني الإسلامي بكل الأنماط المذكورة سابقاً، اتجهت الآراء المختلفة على نحو راح يعزز الفُرقة والاختلاف والتضارب ثم التقاطب والتضارع، وأخيراً الاحتراب (وأحياناً التخوين). تلك كانت محطات مختلفة في مسار واحد جامع، وإذا كان الفرقاء الممثِّلون للآراء المختلفة المذكورة، قد اتجهوا نحو هدف عرّفوه بأنه "تحرير فلسطين"، فإنهم سلكوا دروباً يُكتشف بعد حين أنها قد تلتقي -في منعرجاتها- على ما لا يقود إلى صيانة هذه البقعة. وهذا ما قاد إلى واقع الحال المهيمن راهناً، على صعيد ما نحن بصدده الآن.
ها هنا في هذا المقصد من المسألة، نعلن أن وجه إيراد قضية الربيع العربي في سياق المسألة الفلسطينية، وإيراد هذه في سياق تلك، إنما يأتي من عدة أوجه، الأول من هذه الأخيرة يتمثل في أنهما كلتيهما تحوز على الأهمية التاريخية، التي تحوز عليها الأخرى. فهما كلتاهما -وكل في السياق الزمني الخاص بها- تمارس دوراً ريادياً في مسار التحرر العربي العمومي، بما فيه من احتمالات تقدم حضاري. ويقوم الوجه الثاني على أن كلاً منهما برزت مع بروز وتصاعد حضور قوة عالمية يمكن أن تمارس دور الهيمنة على العالم العربي، نعني الاستعمار الغربي الإمبريالي في الحالة الأولى، والنظام العالمي الجديد -العولمي، الذي لا يحتمل ولادة حركات تحرر نهضوي تنويري في سياق وطني وقومي، في الحالة الثانية. ويبقى الوجه الثالث ويُفصح عن نفسه في أن وقوع القضية الفلسطينية، إذ وقعت في أيدي ذئاب الاستعمار الاستيطاني، فإن حلاً قائماً على "العدل الدولي" جرى تعليقه إلى أجل غير مسمى، في حين أن الربيع العربي إن لم يُبحث عن استحقاقاته العظمى برؤية تاريخية مفتوحة الآن، فإن تحققه، قد لا يأتي مرة أخرى في زمن قادم.
من هنا، تبرز رهافة الحل أو الحلول المقترحة لذلك الربيع، وخاصة ما يتصل بمكونات الأدوات التي تعالجه وتتصدى لصعوباته على نحو يمكن أن يضمن مساراً وطنياً وديمقراطياً للانتصار.