كيف تم بناء النظام الأمني السوري؟ - منذر خدام - دمشق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
بيروت
لقد كان واضحاً منذ البداية لمؤسس النظام الأمني السوري وشركائه في عام 1970 أن الغاية منه هو البقاء في السلطة والمحافظة عليها، ومن أجل ذلك تم تكريس كل الوسائل المتاحة لبناء نظام سياسي يسهر عليها ويعيد إنتاجها.
كان واضحا لهؤلاء، ومنذ البداية أيضاً، أنه لكي ينجح النظام السياسي المنشود في مهمته المركزية كان عليه أن يعتمد السياسات الآتية:
أ- سياسة الإدارة بالفساد.
ب- سياسة قتل الروح السياسية في المجتمع.
ج- إنعاش البنى الأهلية وتوظيفها سياسيا.
لقد كان من نتيجة النهج المعتمد على سياسة الإدارة بالفساد، إنعاش الغرائز اللصوصية في أجهزة الدولة والمجتمع والاقتصاد، بحيث صارت السرقة والرشوة من الوسائل الأساسية في الإدارة والضبط المجتمعي. لقد أدت هذه السياسة إلى تشكيل تحالف ذي طابع طغموي أمني بين شرائح البورجوازية البيروقراطية والكومبرادورية والطفيلية والأجهزة الأمنية لتكوين سلطة سياسية شديدة المحافظة.
ومن جهة ثانية، أدت هذه السياسة إلى انهيار شبه كامل لمنظومة القيم الحميدة في المجتمع، لتحل محلها منظومة قيم جديدة فاسدة تعلي من شأن الفاسد والسارق والمهرب (برافو قد حالو...)، وما تشكل حولهم من مجموعات استزلامية تحت اسم الشبيحة (لقد صار لكل متنفذ شبيحته يستخدمها في تأمين مصالحه، وفي الدفاع عنها).
أما في ما يخص سياسة قتل الروح السياسية في المجتمع فقد تم العمل بموجبها على جبهتين: على جبهة النظام جرى العمل على قتل الروح الحزبية في أحزاب السلطة، وخصوصا في حزب البعث، وإغراق قياداتها في لعبة الفساد والإثراء غير المشروع، وتحويلها مجرد ديكورات سياسية.
على جبهة القوى المعارضة عمل النظام وبكثافة لمنع نمو تيارات سياسية معارضة فاعلة وجماهيرية، من خلال تكثيف حملات الاعتقال لأعضائها، إلى درجة أنها أخذت طابعا استئصالياً في بعض المراحل، كما حصل خلال أزمة أواخر السبعينات أوائل الثمانينات التي تسبب بها الإخوان المسلمون والنظام ودفع الشعب بأسره تكاليفها الباهظة.
كان من نتيجة هذه السياسة من جهة، إضعاف القوى السياسية المعارضة إلى درجة كبيرة، حتى صار الكثير منها مجرد صور لأشكال حزبية معارضة. ومن جهة ثانية تم تعميم الخوف في المجتمع، حتى صار عنوانا للسلبية والابتعاد عن الخوض في القضايا السياسية الوطنية، وخصوصا ما يتعلق منها بالشأن الداخلي. بل واستخدم النظام بذكاء ما حصل في العراق من جراء الغزو الأميركي له، وهو يستخدم في الوقت الراهن ما يجري في ليبيا من أجل تعميق الخوف من أية مطالب بالتغيير. لقد نجحت هذه السياسة في تكوين مجتمع منزوع السياسة، منزوع الحزبية، منزوع الثقافة السياسية، لتملؤه ديماغوجيا تعظيم الزعيم، وتصديق كل ما يصدر عنه، أو باسمه من مواقف وسياسات دون تبصر، وصرف اهتمامات السوريين عن الشأن الداخلي.
أما في ما يخص سياسة إنعاش البنى الأهلية وتوظيفها سياسيا، فقد نجح النظام باستخدامها في صيغ وأشكال مختلفة، بدءا من سياسة التوازنات الطائفية أو العشائرية في تكوين قياداته الحزبية، أو في توزيع المناصب في الدولة وأجهزتها، وصولاً إلى تعزيز دور المؤسسة الدينية الرسمية وربطها به أمنيا واقتصاديا. لقد حوّل النظام الزعامات الأهلية من طائفية وعشائرية إلى خلفية اجتماعية له يستدعيها عند الحاجة لتمارس دورها في الضبط المجتمعي. لقد توسع النظام كثيرا في بناء دور العبادة، والمدارس الدينية، ومعاهد حفظ القرآن وغيرها، فانتشر ما يسمى بالدين الطقوسي على حساب تفريغ المجتمع من الخطاب السياسي العلماني القومي أو اليساري أو الديني المعتدل، مما أسس ويؤسس لوعي طائفي خطير، سوف يدفع البلد ثمنا باهظا له،(وهو يدفع) إذا لم تتم إعادة السياسة إلى المجتمع بسرعة ودون إبطاء ومن البوابة الديموقراطية.
بطبيعة الحال ما كان باستطاعة النظام السوري أن يستمر في السلطة لمدة تزيد على أربعة عقود باعتماده على النهج الأمني فقط، لذلك عمل على جبهات أخرى اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية وغيرها، أدت في المحصلة إلى بروز تناقضات كارثية هي من جملة الأسباب التي أسست للدعوة إلى التغيير الجذري والعميق للنظام القائم. لقد حصل تراكم مهم على صعيد رسملة المجتمع، ودخلت المدنية إلى الريف، وانتشر التعليم على نطاق واسع، وتوسعت وسائل الاتصال بالعالم. كل ذلك عمل على تكوين شخصية المواطن السوري بصورة تجمع التناقضات في داخلها وتتعايش معها وكأنها من الأمور الطبيعية. فهي من جهة غير راضية مثلا عن طريقة إدارة المجتمع بالفساد الذي استشرى بحيث لم يبق أحد خارجه، لكنها لا تعمل شيئا من أجل الحد منه، أو محاربته خوفا من السلطة.
لم يعد الاقتصاد قادرا على تأمين فرص عمل لطالبيه خصوصا من الفئات الشابة المتعلمة، مما أدى إلى انتشار البطالة، والفقر في المجتمع، لكن لا أحد يشير إلى المتسبب به، إلا في الدوائر الضيقة، خوفا من المخبرين أيضاً. صار التوظيف في جميع مستويات الإدارات الحكومية على اختلافها خاضعا لموافقة الأجهزة الأمنية، وللواسطة، وفي بعض المجالات ينبغي شراء الوظيفة. وحتى في المسائل التي تشكل نوعا من الفخر والاعتزاز للسوريين مثل الموقف من القضية الفلسطينية، ودعم المقاومات العربية، وممانعة بعض السياسات الأميركية في المنطقة، أي تلك المسائل التي تمس بالعمق وطنية السوريين، استخدمها النظام بذكاء أيضا لحرف اهتماماتهم عن الشأن الداخلي.
لقد بدأ النقد الهامس ينتشر في أوساط السوريين عن حقيقة هذه المواقف الخارجية للنظام ومدى جديتها، خصوصا وقد اختار النظام نهج التفاوض مع إسرائيل كخيار استراتيجي، وعندما يرون أنه يحرص على بقاء جبهة الجولان هادئة، وعندما يرون أن إسرائيل تنفذ عمليات أمنية خطيرة في سوريا دون رد، أو دون محاسبة المقصرين.
باختصار تجمعت جملة من الأسباب التي تمس حياة السوريين المباشرة وكرامتهم جعلتهم غير راضين عن الظروف التي يعيشون فيها، وكان لا بد من حصول ما يكسر حاجز الخوف لديهم لكي ينتفضوا، وهذا ما جاءتهم به الثورة التونسية والثورة المصرية وغيرها من الانتفاضات العربية في تأكيد واضح على عمق الروابط القومية العربية.