سؤال الحرية الدينية في المشهد العربي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
سؤال الحرية الدينية في المشهد العربي بعد الثورة
محمد طيفوري
"إن غاية القدماء كانت هي توزيع السلطة الاجتماعية بين المواطنين المنتمين لنفس الوطن، هذا ما كانوا يسمونه حرية. وغاية المحدثين هي الأمن في الانتفاعات الخاصة، إنهم يسمون الحريات تلك الضمانات التي تكفلها المؤسسات لهذه الانتفاعات". بينجامان كونسطان (1767 ـ 1830).
من يتأمل النقاش السائد في الساحتين المصرية والتونسية والليبية بصفة خاصة، وبقية ساحات التغيير بحدة أقل في انتظار أن تستقر الأوضاع، يساوره سؤال حول المنطق الذي يحكم هذا السجال الذي تخوض فيه التيارات الأصولية، بشتى أصنافها حول إسلامية الدولة وتطبيق الشريعة الإسلامية وهلم جرا من الشعارات، في سعي حثيث نحو التأسيس لها وإن بالإكراه في دساتير ما بعد الثورة.
سعي يعد بمثابة ارتداد عن أحد أسمى الأهداف التي أقيمت الثورات في سبيلها إنه الحرية كقيمة مقدسة، بل أكثر من هذا هو نكوص حتى عما كانت تضمنه الأنظمة الشمولية القائمة قبل الثورة بدرجات مختلفة. فمما لا ريب فيه أنه حين تحول قضايا الاعتقاد والرأي والحريات الفردية إلى مسألة إكراه، لا بد أن نتوقع الأسوأ دائما. خاصة عندما تصير قناعات الأفراد ومعتقداتهم التي هي في الغالب خاضعة لقاعدة الاختلاف والتعدد إلى موضوع إكراه ذي طابع سياسي عقدي، يحاول خلاله أحد الأطراف المهيمنة فرض وجهة نظره وإكراه الآخرين على تبنيها بالقوة، مستعينا بسلطة الأغلبية العددية التي يملكها، بعيدا عن أسس دولة المواطنة المطلقة التي تسع الجميع. فعندئذ يولد ما يعرف بالإكراه الفكري والذي تزداد خطورته وتعقيده، إذا ما كان موضوعه ذا طبيعة دينية ومؤسس له في أسمى قانون للدولة (الدستور): إننا أمام ذات السيناريو التاريخي لنشوء محاكم التفتيش عبر تاريخ الإنسانية الطويل.
من جهة أخرى، نجد أن طبيعة المجتمعات التي يروج فيها هذا النقاش معروفة تاريخيا بطابعها التعددي والمتنوع على المستويين الطائفي والقبلي، حتى صار ذلك حقيقة غير مختلف فيها يسعى هؤلاء اليوم إلى إنكارها أو تجاهلها. تعددية صُرفت تحت يافطة الأقليات في ظل الأنظمة البائدة، أقليات حان الوقت لتتمتع بكامل حقوقها على أساس المواطنة، لا الانتماء العرقي أو القبلي أو الطائفي أو العقدي أو غيرها من التصنيفات التي تفتح الباب على مصراعيه للاستبعاد الاجتماعي بمختلف أشكاله.
قبل كل ذلك حري بنا أن نتذكر أن الحرية التي من أجلها انتفض الشباب في الأقطار العربية كانت الحرية بـ "ال" للتعريف دون تخصيص، أي الحرية بمختلف مناحي الحياة السياسية والإعلامية والفكرية والدينية
فضلا عن ذلك فحق الحرية الدينية الذي يحاول هؤلاء نفيه عُدّ حقا من حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، والتي تطلب إقراره والقبول به على الصعيد العالمي تضحيات ونضالا طويلا قبل الوصول إلى تحقيق هذا الهدف. ويعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أبرز هذه المواثيق الدولية، الذي ينص في مجموعة من مواده على هذه الحقوق التي تحفظ للناس حرية الاعتقاد وحرية التفكير، ومنها المادة الثانية والثامنة عشرة والتاسعة عشرة والسادسة والعشرون والثلاثون. إضافة إلى ما سلف وردت الإشارة إلى ذات الحق العديد من المواد المتعلقة بالعهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية، كل ذلك تأكيد على مركزية هذا الحق ضمن منظومة حقوق الإنسان.
نعم، فحرية الاعتقاد صارت اليوم من المسلمات البدهية، لا سيما بعد إرساء قواعدها وإشاعتها في تلكم المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان. وإن كانت هذه الحقيقة تاريخيا لم تكن على هذا النحو من البداهة، وعمليا نجد أمثال أصحاب هذه الشعارات ممن لا يزالون غير مقتنعين ببداهة وقداسة هذه الحقيقة.
حقيقة يسعون إلى تجاهلها بقلب الآية والمطالبة بإقرار حقوق الشعوب، والتي باسمها واعتبارا لوحدتها وانسجامها يمكن التقييد والحد من حقوق هذه الأقليات، وتصريفها في قناة التسامح كما كان عليه الحال في عز الدولة الإسلامية والسلف على حد تعبيرهم.
قناة تطرح التسامح كحل لمسألة الحرية الدينية الذي صار مبتذلا، إن لم نقل منتهي الصلاحية في ظل التشريعات الكونية الحديثة. خاصة عند العودة إلى جينالوجيا هذه المفردة في المعاجم والمقارنة بينها، فالتسامح في اللغة الفرنسية يقابله Toleacute;rance الذي يفيد في معجم Le robert "ألا تنهى وألا تطالب، في حالة أنه يسعك ذلك". وفي المقابل نجد لسان العرب لابن منظور يحدده كالتالي: "السماح والسماحة، الجود ويقال سمح وأسمح إذا جاد وأعطى عن كرم وسخاء".
فالتسامح بهذا المعنى لا يمنح الحق في الحرية الدينية، وإنما هو مجرد سخاء بها من موقف استعلاء، وهو هكذا ضمنيا تسفيل و إدانة.
خلافا لذلك فالاحترام حق يفترض المساواة الكاملة والمطلقة بين الأطراف، فهو بمفرده يضمن كرامة الجميع، وفيه لا يوجد أسفل ولا أعلى، على نقيض التسامح الذي نجد فيه المتسامح في مستوى أعلى والمتسامح معه في مستوى أسفل.
وضعية تمكن الطرفين دون أن يتنازل أي منهما عن التزامه العقائدي، من التوجه نحو الآخر لبناء علاقات على أساس المساواة والحرية المتبادلة. أكثر من هذا فالاحترام لا يفترض حتما أن يضع أي من الطرفين إيمانه الشخصي محل تشكيك.
قبل الختام نود أن نتساءل هنا حتى وإن قبلنا جدلا بمغامرة إسلامية الدولة حول نوعية الشريعة وطبيعة الأحكام التي سيحتكم إليها هؤلاء؟ أهي شريعة السلف الصالح على نهج المحافظين (التيارات السلفية) أم الحركيين (الإسلام السياسي) أم الصوفيين أو غيرها من الأنماط التي تكشف عن تعددية مفتوحة تعد الأصل الذي لم يستوعبه الكثيرون.
لقد قامت الثوراث العربية من أجل تحرير المواطن من الاستبداد والقهر، ولن يقبل أبدا أن يستبدل الاستبداد السياسي باستبداد ديني. إذا أراد الأصوليون أن يطبقوا مشروعهم السياسي فعليهم أن يعرضوه على الشعب صاحب السيادة المطلقة في الديموقراطيات، فإذا اختار الناخبون برنامجهم فليس من حق أحد أن يعترض لأنها إرادة الشعب، أما إذا رفضوه فليس من حق أحد أن يفرضه عليهم مهما كانت الأسباب والمبررات.
ثم إن حماية الثورات وتحقيق أهدافها لا تكون بتصفية تركة الأنظمة البائدة التي ليست سوى تحصيل حاصل، بل بإقامة مؤسسات ووضع تشريعات تنهل من عبق روح الثورة قلبا وقالبا، بضمان حقوق وحريات كافة الأطياف والطوائف والأقليات التي صنعت هذه الثورة، في إطار دولة وطنية تقدس مفهوم المواطنة مكرسة الأولوية للاجتماعي على السياسي.
باحث من المغرب والمقال منشور بالتعاون مع مشروع "منبر الحرية"