جريدة الجرائد

النخب العلمانية التونسية.. وهيستيريا الخوف من حركة النهضة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

توفيق المديني


في ضوء الفوز التاريخي الذي حققته حركة النهضة الإسلامية في تونس، في الانتخابات الأخيرة بحصولها على 41،7 في المائة من الأصوات، رغم عدم حصولها على الأغلبية المطلقة، إلا أنها باتت تسيطر على المشهد السياسي التونسي، وستقود الحكومة الائتلافية المؤقتة مع حزبين علمانيين كبيرين، حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي يقوده الدكتور المنصف المرزوقي، وحزب التكتل من أجل الحريات والديمقراطية الذي يقوده الدكتور مصطفى بن جعفر، في المرحلة المقبلة، لإدارة البلاد وصوغ دستور جديد السيدة، أجرت الناشطة التونسية في المجال الحقوقي السيدة سهام بن سدرين حوارا مع التلفزيون الفرنسي، استنجدت فيه بفرنسا كي تدافع عن العلمانية في تونس المهددة من قبل الإسلاميين، مما ولد ردود أفعال مناهضة لعودة الكولونيالية الفرنسية لتونس.
وقد أثار فوز حركة النهضة الإسلامية قلق بعض الناشطات في مجال حقوق الإنسان من إمكان التراجع عن المكاسب التي حققتها المرأة التونسية. وتجمعت نحو 500 امرأة في ساحة القصبة ورفعن لافتات كتب فيها: "لن نفرط في مكتسباتنا"، "نطالب بدستور يحترم كل حقوق المرأة" و"لا تمييز لا جهويات نريد مساواة". ورددن هتافات تنادي برفض التطرف الديني وفرض أسلوب نمط حياة جديد.
صحيح أن النخب العلمانية والليبرالية والأحزاب اليسارية قاومت الديكتاتورية البوليسية في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، من أمثال الأستاذ كمل الجندوبي في باريس، والأستاذ خميس الشماري، والناشطة الحقوقية سهير بلحسن، والمحامية راضية نصراوي، والمناضل حمة الهمامي زعيم حز العمال الشيوعي التونسي، والدكتور مصطفى بن جعفر، والزعيم التاريخي للحزب الديمقراطي التقدمي المحامي أحمد نجيب الشابي، إلا أنه لا يجوز أن تصاب الأحزاب العلمانية والنخب الليبرالية الذعر والقلق من انتصار حركة النهضة، لاسيَّما أن هذه الأخيرة حققت فوزاً كان متوقعاً، لكنه ليس بالمطلق، وإذا طبقنا عليه المقاييس الدقيقة، نجد أن ما يقارب 60 في المائة من التونسيين'(وهم الأكثرية) لم يصوتوا لحركة النهضة الإسلامية، وبالتالي هم ليسوا مع توجهاتها، أي أننا نجد أن أكثر من نصف الناخبين صوتوا لمصلحة الاعتدال، أي النهج الوسطي الذي يتميز به التونسي.
وإذا تمكنت الأحزاب العلمانية والليبرالية التونسية تشكيل تحالف قوي داخل المجلس الوطني التأسيسي، ومن خارجه عبر تجنيد مختلف مكونات المجتمع المدني التونسي الذي يتمتع بمقاومة حقيقية حضارية وتاريخية ضد أنواع الاستبداد كلها، فإن حركة النهضة لن تستطيع بمفردها أن تشكل المشهد السياسي التونسي، أو تصيغ الدستور وفق رؤيتها الإسلامية. وفضلاً عن ذلك، الذي صنع الثورة التونسية ليسوا الإسلاميين، بل إنها ثورة مدنية بكل ما تعني الكلمة من معنى دقيق، أسهمت في إنجازها حركة شبابية متعلمة تعليما جامعيا، إضافة إلى مكونات المجتمع المدني الحديث، والطبقة الوسطى والفئات الشعبية التي نمت وترعرعت في ظل الفضاء العام للدولة التونسية، الذي لا يزال فضاء علمانيا بامتياز منذ عهد الاستقلال وليومنا هذا.
في الواقع التاريخي التونسي يعتبر الفرنكوفونيون التونسيون، هذه النخبة التي اعتمدت عليها الدولة التونسية في عهدي بورقيبة وابن علي، تعتبر نفسها حامية احترام الدستور والعلمانية والديمقراطية، ضمن سياق بناء دولة علمانية قومية تسلطية، تتبنى الأيديولوجية العلمانية الفرنسية الإقصائية كمرجعية سياسية ثقافية أشد تعصباً من النمط العلماني الفرنسي الذي يعتبر الأكثر تخلفا في دول الغرب.
ليس من شك أن الفرنكوفونيين التونسيين، بسبب اعتناقهم العلمانية البرجوازية الفرنسية، والايدولوجيا الأتاتوركية ظلوا يمارسون في تاريخهم الطويل بعدا وصائيا علمانيا على المجتمع المدني التونسي، هي علمانية " ثورة من الأعلى "التي تخدم البناء القومي الأيديولوجي والسياسي للنظام البورقيبي، ومن بعد نظام ابن علي المخلوع، وتدعيم طابع الكلية الدولتيه، كنفي سلبي لدور الشعب.
وبذلك أصبحت العلمانية في نطاق الممارسة السياسية للنخبة لفرنكوفونيية التونسية إحدى مكونات الايدولوجيا القومية الكلية لنظام بورقيبة ومن بعده ابن علي. وتجسدت بالدرجة الرئيسية في العلمنة الراديكالية للمجتمع. فالدولة التونسية التي أطلقت مشروعها العلماني الواسع جداً في مجتمع تونسي إسلامي يهيمن عليه التأخر التاريخي، كان يشقها تناقض منذ عهد تأسيسها، يتمثل في هيمنة الطابع الخارجي لهذه الدولة بالنسبة للمجتمع، الموروث من عهد الدولة العلمانية الغربية على رغم من وجود سلطة بورقيبة تتمتع بـ " شرعية تاريخية " وبقاعدة من المساندات حيث إن هذا الطابع الخارجي للدولة المهيمن على المجموع الاجتماعي باسم علمانية مشروعه التحديثي الهادف إلى أحداث تغيرات سياسية واقتصادية وثقافية في بنية المجتمع التونسي، كان في حد ذاته نقضاً للفضاء العام، الذي يمثل المسرح الحقيقي للمواطنة بحصر المعنى، المنقسم إلى فروع ثنائية الفرد - المواطن، المصالح الخاصة - المصالح العامة، المجتمع المدني - الدولة.
لا شك أن وصول حركة النهضة الإسلامية إلى قمة السلطة في تونس بث الرعب والقلق في أوساط النخبة الفرنكوفونية التونسية التي نصبت نفسها حامية لإرث بورقيبة وابن علي، ومعارضة عودة الهوية العربية الإسلامية مجدداً إلى تونس، والحفاظ على هويتها العلمانية الإقصائية بكل الطرق والوسائل، حتى لو أدى الأمر إلى الاستنجاد بعودة الكولونيالية الفرنسية.
إنها الأصولية العلمانية على النمط الفرنسي أو التونسي التي تخاف من الدفاع عن الهوية العربية الإسلامية لتونس. إن العلمانية التونسية تشذ عن باقي العلمانيات الغربية الأخرى: الأمريكية والبريطانية والألمانية، التي تؤمن بالحرية والتعددية الدينية والثقافية، ولم تصدر قوانين تحظر الحجاب، أو تفرض قيوداً على الديانات الأخرى. فهناك أكثر من عشرة ملايين مسلم في كل أوروبا، باتوا مواطنين صالحين، يساهمون في بناء مجتمعاتهم، واستطاعوا بثقافاتهم المتعددة أن يعطوا نكهة خاصة للمجتمــعات الأوروبية، تخرجها من اللون الواحد، وتدمجها في عالم العولمة والألوان الثقافية المتعددة.
والعلمانية الفرنسية الأصولية التي تدافع نها النخبة الفرنكوفونية التونسية بهذا المعنى هي علمانية استئصالية تمارس أصولية معكوسة في اعتدائها على الهوية العربية الإسلامية لتونس. وأصبحت هذه العلمانية عائقاً بنيوياً أمام تطور تونس على الصعيدين السياسي والثقافي، التي مازالت لم تهضم بعد عودة الدين بقوة إلى الغرب العلماني نفسه، فما بالك بالشعوب المسلمة التي أصبحت تتقزز من نموذج إقصائي للعلمانية في العالم العربي والإسلامي، يعاني الآن من أزمة حقيقية، هو: النموذج العلماني الفرنسي ونسخته التونسية الإقصائية.
إن مطلب العلمانية الذي ينافح عنه بعض النخبة الفرنكوفونية التونسية ليس إلا إخفاء وتورية لخيار الدولة الشمولية والتدخلية التونسية في عهدي بورقيبة وابن علي التي تسلطت على رقاب الناس وتحكمت في خياراتهم الثقافية والفكرية، فضلاً عن هويتهم الحضارية.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف