الصومال بلد يصارع الموت ويناضل من أجل الحياة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
مقديشو -rlm; محمد أمين المصري ـ أسماء الحسيني
جلست الأم الشابة زهرة معلم وهي ترجو من الله شفاء وليدها الوحيد عبدالله حسن البالغ من العمر عامينrlm;,rlm; والذي تبقي لها من أربعة أبناء فقدت ثلاثة منهمrlm;,rlm; اختطفهم الموت جوعاrlm;,rlm;
وهي في طريقها من مدينتها بيداوا في جنوب الصومال والتي تبعد نحو250 كيلومترا عن العاصمة مقديشو والتي جاءتها سيرا علي الأقدام, يسقط منها أبناؤها الواحد تلو الآخر, ولا تملك شيئا سوي أن تترك الجثة تلو الأخري علي قارعة الطريق, لتنجو بمن تبقي. وعبد الله وليدها الوحيد الذي تبقي لها بعد رحلتها الطويلة المضنية لايتجــــاوز وزنه بضعــة كيلوجرامات في حين أن وزن أقرانه في الظروف العادية يصل في المعتاد إلي12 كيلو جراما, وهو مصـــاب بالتهاب رئوي وآلام حادة في بطنــه وارتفاع شـــديد في درجة حرارتــــه.
ومع هذه المعاناة, ربما تكون زهرة محظوظة أكثر من غيرها من العائلات الصومالية التي قضت عليها أزمة المجاعة والجفاف الأخيرة وهي محنة بلغت ذروتها قبل ثلاثة اشهر.. وبرغم التدفق غير المسبوق للمساعدات الإنسانية من كل الدول العربية والإسلامية تقريبا خاصة في شهر رمضان, فإن المأساة لاتزال ماثلة بسبب صعوبة وصول هذه المساعدات للكثير من المناطق المنكوبة والتي تسيطر عليها حركة شباب المجاهدين. بل أن التحسن الذي حدث في مخيمات مقديشو مهدد بأن يصاب بانتكاسة قريبا في ظل موسم الخريف والأمطار الذي يطل برأسه علي الأبواب. وهناك تحذيرات طبية عديدة بان الأوضاع في مخيمات النازحين في العاصمة وبقية المناطق ستكون في وضع مأساوي خطير فضلا عن أن مقديشو ستصبح أكبر مخيم للنازحين في العالم بسبب تدفق أعداد هائلة من الصوماليين القادمين من الجنوب. ذاكرة زهرة لا تبارحها آلام السير في العراء في درجة حرارة قائظة, وهي لاتستطيع أن تدفع عن صغارها غائلة الجوع والمرض والتشرد والجري هربا من مناطقهم المنكوبة بفعل محنة الجفاف, ناهيك عن الابتلاء بسيطرة شباب المجاهدين الذين منعوا وصول الاغاثات إلي مناطقهم.
نفايات الغرب
لسن الأطفال وحدهن بل الأمهات والرجال, والشباب والشيوخ أيضا, فكل من التقينا بهم في مخيمات النزوح التي انتشرت في شوارع مقديشو قد تراكمت عليهم أمراض شتي منها ما يتعلق بالمجاعة وقلة الطعام, ومنها ما سببه قلة المياه وعدم القدرة علي الاعتناء بالنظافة العامة, ومنها المتعلق بتداعيات الحروب والإصابات الناجمة عنها, ومنها الأمراض السرطانية التي تنتشر وسط المجتمع الصومالي ولايعرف الأطباء المصريون لها سببا, وإن كان الصوماليون الذين التقينا بهم يرجحون أنها ترتبط بما تردد عن دفن الدول الكبري لنفايات نووية في مناطق الصومال, مستغلين غياب السلطة والحكومة والدولة..!!
الكارثة مستمرة
الكارثة لم تنته بعد, هذا ما يؤكده الأطباء المصريون الذين ينتشرون في الخطوط الأمامية في معسكرات ومخيمات النازحين. يقول د. مصطفي البطريق طبيب الأطفال: رغم التحسن الملحوظ في الحالة الصحية وتراجع أعداد الوفيات الذين كانوا يسقطون بالعشرات في كل مخيم يوميا, لكن العاصمة مهددة بأن تصبح أكبر مخيم للنازحين في الأيام المقبلة إذا ما سقطت الأمطار وتفاقمت حدة الأزمة الأمنية والإنسانية في الجنوب الصومالي.. ويضيف: الناس تموت بسبب افتقادهم لوجبة طعام واحدة, قابلت هنا أمراضا قرأت عنها في الكتب فقط, هناك أطفال أصيبوا بالعمي بسبب نقص فيتامين( أ).. أكل التراب هنا شائع بين النازحين, وهو عرض من أعراض الأنيميا الحادة والأمراض الطفيلية. يتعجب البطريق الذي يتعاطف مع أشقائه في الصومال اشد التعاطف من أن الحصبة تقتل آلاف الأطفال في الصومال لأنهم لم يحصلوا علي التطعيم في الوقت المناسب, والأخطر هو شلل الأطفال الذي يجب حماية الأطفال الصوماليين منه حتي لايؤدي إلي جيل كامل من المعاقين, الكوليرا ظهرت ومن المتوقع أن تزيد مع موسم الأمطار وعدم وجود الصرف الصحي والمياه النظيفة وانتشار المستنقعات. من جانبه, يري د. أحمد سمير فوده أخصائي طب الأطفال والمبتسرين أن مشكلة الأزمة الصحية في الصومال التي كانت مزمنة أصبحت حادة الآن. وهو يخشي من انفجارها مجددا ما لم يتم تكاتف الجهود الدولية والعربية والإسلامية لإعادة النازحين إلي مناطقهم الأصلية بعد توفير ضرورات الحياة والرعاية الصحية المناسبة. ويحذر فودة من تلاصق المعسكرات وعدم توفر دورات المياه الصحية بها.
أياد بيضاء
وقد قابلنا في الأيام التي قضيناها هناك في الصومال أيادي بيضاء كثيرة أتت من كل أنحاء العالم العربي والإسلامي يمدون يد العون لإخوانهم في الصومال من مصر والكويت والسعودية والامارات وقطر والبحرين والسودان والجزائر وتركيا وايران وغيرهم الكثير. ربما لأول مرة يشعر الصوماليون بهذا الوجود المكثف والتعاطف الكبير من إخوانهم العرب والمسلمين,الذي فاق حجم وجود منظمات الإغاثة الدولية التي لا تتحرك كما ينبغي لمواجهة هذه الأزمة الإنسانية التي يندي لها الجبين, وقد اكتفت كثير من هيئات الإغاثة العالمية بالإقامة في نيروبي وإدارة أعمالها عن بعد, تاركة أعمال الإغاثة الميدانية للمنظمات العربية والإسلامية وكـأن الأزمة إسلامية وليست إنسانية!. ويشرح الصيدلي أحمد علم الدين, هذا الشاب المصري خريج أحدث دفعة لصيدلة القاهرة, حجم معاناة منظمات الإغاثة المصرية والعربية بسبب تعنت المنظمات الدولية التي تخضع عملياتها لإجراءات بيروقراطية عقيمة تؤدي إلي تأخير وصول التطعيمات والأدوية العاجلة للمخيمات, وربما يكون هذا التأخير سببا كافيا لوفاة الكثير من الأطفال والأمهات. هذا رغم أن منظمات الإغاثة المصرية والعربية توفر للجهات الدولية تقارير وافية بالموقف الميداني وطبيعة الاحتياجات اللازمة, ولكن التباطؤ الشديد هو سمة التعامل الدولي مع النازحين في الصومال.
ومن بين المنظمات العربية والمصرية التي هرعت إلي مقديشو في بداية الأزمة, اتحاد الاطباء الع
رب بأطبائه وأدويته وإغاثته ومساعداته من مصر, والتي يقول د. محمد سليمان المدير العام للاتحاد إن الشعب المصري هو الذي مول تلك الحملة من تبرعاته التي بلغت نحو12 مليون جنيه خلال أيام قليلة في آخر رمضان الماضي رغم تضرر الظروف الاقتصادية بعد الثورة.
وكان الأطباء المصريون قد بدأوا عملهم في ذروة الأزمة في أغسطس الماضي بالنزول إلي المعسكرات وفتح العيادات بها, ثم قرروا بعد ذلك أنه من الأجدي افتتاح عيادة خاصة بهم أطلقوا عليها اسم مستشفي زمزم المصري وتم افتتاحه أخيرا بحضور بعض الشخصيات الصومالية وممثلي الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي ووفد شعبي وإعلامي مصر. ويضم المستشفي أربعة مبان فضلا عن مقر إداري وأخر سكني, ويستقبل يوميا نحو300 حالة أطفال و150 حالة باطنة وتجري نحو30 جراحة يوميا, والكشف والعمليات والعلاج مجانا. ويضم العديد من الأجهزة الطبية والمعامل المتطورة التي تم إحضارها من مصر علي متن طائرة عسكرية, فضلا عن الادوية المتنوعة التي تقدم مجانا كذلك للمرضي.
وقد أكد سليمان أن المستشفي شاملا البعثة الطبية المصرية سيظل مستمرا في أداء عمله لمدة عام ولديه أدوية تكفيه لمدة6 اشهر تقريبا, رغم تكلفة إيجار مقر المستشفي المرتفع للغاية.
سفراء مصر
ويمثل الاطباء بلدهم مصر خير تمثيل, فهم سفراء حقيقيون لمصر التي غابت عن الصومال منذ أمد طويل, ولدي الاطباء تعاطف كبير مع اخوانهم من الصوماليين, فهم لم يأتوا في مهمة روتينية, بل جاءوا وهم يعلمون ان مخاطر جمة تحيط بهم, ورغم ذلك فهم يعتبرون مشاركتهم هي اقل واجب يؤدونه.
تفجيرات نوعية
لم تكن مهمة الاطباء سهلة, فهم ليسوا في رحلة عادية بأي حال من الأحوال, والعامل الامني شكل هاجسا كبيرا لكل قادم الي الصومال, فشباب المجاهدين كانوا يستولون علي اجزاء من العاصمة قبل طردهم منها أخيرا, ولكن الآن يستهدفونها بالعمليات التفجيرية النوعية والتي تقتل العشرات ليؤكدوا بها أنهم لايزالون اصحاب اليد الطولي في الصومال. وكانت الكارثة في البداية اكبر من امكانيات الاطباء وكل المنظمات, فالقادم اليهم من المرضي علي حد تعبير أحدهم مثل مغارة مظلمة يبحثون فيها عما يضمن له اسباب الحياة اولا ويبقيه علي قيدها. لقد عاد أخيرا بعض الامل للصوماليين حينما رأوا هذه الوجوه المصرية السمراء, في ان يعود لمصر دورها القوي الذي افتقدوه في الفترة الاخيرة, والذي يحنون اليه ويثقون فيه ويحتاجون إليه, هذا الدور الذي يقيهم حقا شر الفتن والفوضي والوقوع في براثن قوي دولية واقليمية طامعة في الثروة ومياه البحر وكنوزه. واذا كنا تحدثنا قليلا عن الامل مقابل الكثير من المواجع, فهذا لان حجم المأساة يفوق الخيال.