التهديدات التي تواجه الوحدة الوطنية في السودان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يوسف نور عوض
لم تكن العلاقات بين السودان والولايات المتحدة منذ استقلال البلاد في عام 1956 جيدة، فقد كان الشعب السوداني ينظر دائما بحذر إلى ما ستسفر عنه العلاقات بين البلدين، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة شملت السودان بالمعونة الأمريكية فقد توقفت هذه المعونة بعد عدوان عام ألف وتسعمئة وسبعة وستين على مصر.
ومنذ ذلك الوقت والعلاقات بين السودان والولايات المتحدة يحيطها كثير من الشكوك، خاصة عندما احتدم الصراع بين جنوب السودان وشماله في زمن الدولة المستقلة، وفي تلك المرحلة بذلت الولايات المتحدة جهودا كبيرة من أجل أن يتوصل الشمال إلى اتفاقات نيفاشا مع المتمردين، ولم يتنبه كثير من الشماليين في تلك المرحلة إلى الإسفين الذي دقه الأمريكيون في تلك الاتفاقية، وهو إسفين الاستفتاء الذي انتهى في آخر الأمر بانفصال جنوب السودان، وربما انتهى الأمر عند هذا الحد لو أن الجنوبيين قبلوا نتيجة الاستفتاء وأقاموا دولتهم على النحو الذي أرادوه، لكن الجنوبيين أدركوا الحقيقة بمجرد أن حصلوا على استقلالهم، وهي أنهم يملكون دولة لا منافذ لها إلى الخارج، إذ لا يستطيع الجنوبيون أن يخرجوا إلى العالم العريض إلا عن طريق الشمال، أو عن طريق التقهقر جنوبا إلى الدول الأفريقية ليواجهوا واقعا أكثر صعوبة مما كانوا يعتقدون أنهم يواجهونه في شمال السودان، وبدت المشكلة الحقيقية التي تواجه سائر الأقاليم الداعية إلى الانفصال في السودان، ذلك أن وحدة السودان لم تكن في الأساس وحدة سياسية أو عرقية بل كانت دائما وحدة جغرافية، وتلك حقيقة أدركها محمد علي باشا الذي وضع اللبنات الأولى للسودان الحديث، وما نعنيه بالوحدة الجغرافية هو أن قدر السودان أن يكون دولة موحدة، ولا يستطيع أي إقليم أن ينفصل من دون أن يواجه صعوبات بالغة في إدارة شؤونه، وذلك ما بدأ يواجهه الجنوب في الوقت الحاضر، ولكن كثيرا من الجنوبيين لم يدركوا هذه الحقيقة وبدأوا يفكرون بالأسلوب المعوج ذاته الذي أدى إلى انفصال الجنوب، إذ بدلا من أن يقتنع هؤلاء أن الطريق الذي سلكوه لم يكن الطريق السليم، فقد بدأوا يفكرون في إقامة دولة جديدة موحدة، وبدلا من ان تكون هذه الدولة تحت سلطة الشماليين فإنها تريد ان تكون تحت سلطات عرقية جهوية وإقليمية، وذلك هو تفسير موقف ياسر عرمان المتشدد والداعي إلى أن يكون هناك جيش للحركة الشعبية في شمال السودان ليواصل تحقيق إستراتيجية السودان الجديد التي يقول إن جون قرنق دعا إليها، وهنا لا يمكن أن يفسر هذا الموقف إلا على أنه دعوة للاحتراب وإثارة القلاقل، ذلك أنه إذا كان الجنوبيون أو الحركة الشعبية يريدون تحقيق طموحاتهم في إقامة دولة لهم، فقد تحقق لهم ذلك، أما الاستمرار في السير على الطريق نفسه من أجل إلغاء الوجود الشمالي كله فلا يمكن أن يفسر إلا على أنه موقف عنصري لا يتوافق مع إقامة المجتمعات الحضارية، وذلك هو الجانب الذي ينبغي أن يتنبه له البعض في ولاية النيل الأزرق وفي جنوب كردفان، لأن هؤلاء لا يمكن لهم أن يلغوا الوجود العربي والإسلامي في شمال السودان من أجل تحقيق أفكار غير مدروسة، ذلك أن عرب الشمال ليسوا قبائل مهاجرة بل قبائل من سكان البلاد الأصليين ولا يمكن تجريدهم من مناطقهم أو تهميشهم على هذا النحو الذي تريده الحركة الشعبية، ولكن يبدو أن هناك جهودا تبذل في الولايات المتحدة من أجل إيصال السودان إلى هذا الواقع المظلم، خاصة بعد أن تكونت عشرات الجمعيات في الولايات المتحدة من أجل دفع الحركات الانفصالية في البلاد، ولقد رأينا الرئيس السوداني في الأيام الأخيرة يرسل تهديدات بأنه سيواجه جميع هذه الحركات الانفصالية بما تستحقه من حزم، وهذا موقف طبيعي من الرئيس السوداني، ولكن المسألة لا تنتهي عند هذا الحد إذ يجب أن ينظر دائما إلى البعد الخارجي الذي يفكر بطريقة إستراتيجية من أجل تحقيق أهدافه في السودان.
ولا شك أن إسرائيل تلعب دورا كبيرا في خلق الصعوبات أمام السودان، وهناك دلائل كثيرة على أن إسرائيل لديها استراتيجية شاملة لا تقتصر على السودان وحده بل هي تتجاوز السودان إلى مصر، ذلك أنه على الرغم من الصلح الشكلي بين إسرائيل ومصر، فإن إسرائيل لا تثق في مستقبل العلاقة مع مصر، وهي ترى أن تسبيب المشاكل لمصر في جنوب السودان سيجعلها دائما في حالة ضعف وغير قادرة على اتخاذ مواقف إيجابية في السياق العربي، والمؤسف حقا أن مصر لم تعط هذا الواقع حتى الآن ما يستحقه من اهتمام، بل إن مصر لم تفكر مطلقا جنوبا، وهذا خطأ ظل متكررا منذ أن كان الشعار المرفوع هو شعار وحدة وادي النيل، وهو الشعار الذي أهملته مصر وانصرفت إلى غيره، ولا نريد بذلك أن نقول إن مصر تملك مفتاح الحل والعقد في تحقيق وحدة السودان، ولكن المؤكد هو أن إضافة مصر إلى شمال السودان ستكون إضافة مهمة وستجعل الكثيرين يفكرون كثيرا قبل أن يواصلوا تآمرهم على وحدة السودان، ولكن مع ذلك فلا نزعم أن الأرض في السودان ممهدة من أجل مواجهة أخطار الحركات الانفصالية، ذلك أن السودان يعاني في الوقت الحاضر من أزمة في وحدته الوطنية والاجتماعية، وهي وحدة لن تتحقق إلا إذا بدأ نمط من التفكير الجديد لا يركز فقط على تقاسم السلطة وتوفير الأمن للحكام، بل يتجاوز ذلك إلى إقامة الدولة الحديثة التي ترعى حقوق المواطنين ويسود فيها القانون والعدل والكرامة.
ولا شك أن إقامة هذه الدولة الحديثة هو الذي سيحقق الوحدة الوطنية ويؤكد للجميع في مختلف أقاليم البلاد أنهم يعيشون في إطار دولة موحدة أساسها العدل والاقتصاد وحقوق الإنسان، وعند ذلك فلن يجد أي فرد في أي إقليم من أقاليم السودان ذريعة للادعاء بأن دولة الوسط هي التي تسيطر على السلطة وعلى المال حارمة بذلك الأقاليم وتاركة اياها تعاني الفاقة والشظف، ولكننا مع ذلك نؤكد أن مثل هذا التحول لا يتم فقط على المستوى الحكومي، إذ يجب أن يتم أيضا على المستوى الثقافي، ذلك أن معظم الذين يقومون بالحركات الانفصالية في الوقت الحاضر لا ينظرون إلى واقع البلاد نظرة شاملة وإنما هم يفكرون من زاوية مصالح محدودة، ولا يرون التحول في نظام الدولة بل يرونه في تغيير الحكومات، ولا شك أننا نعترف بأن التخلف في الواقع الاقتصادي يجعل الكثيرين يعتقدون أنه بسبب الظلم الذي يقع على سكان الأقاليم، وليس ذلك صحيحا لأن التخلف في الواقع الاقتصادي لا يقتصر على إقليم دون غيره بل هو سمة عامة بسبب عدم وجود أسس الاقتصاد الحديث، وذلك أمر مؤسف في بلد كان ينظر إليه على أنه سلة غذاء العالم العربي، ولكنه يواجه الآن مشكلات مثل تلك التي تواجهها دول لا تمتلك إمكانات السودان الطبيعية الضخمة.
ويخيل لي أن المشكلة الحقيقية التي يواجهها السودان في الوقت الحاضر هي مشكلة الوحدة الوطنية، وهي وحدة لن تتحقق إلا إذا اقتنع الكثيرون أن السودان بلد تأتي وحدته الجغرافية قبل وحدته السياسية، وأن كل من يفكر في هدم هذه الوحدة لن يحقق في هذه البلاد سوى الفوضى والنزعات العنصرية التي لن تحقق مكاسب للبلاد.
وإذا كنا في الماضي نجد من يفسرون الصراع بين الشمال والجنوب بانه يقوم على أسس عقدية وعرقية، فما جدوى أن تتبع الحركة الشعبية الأسلوب نفسه في خوض صراع جديد مع الشمال على أسس عرقية وعقدية؟
وما أراه في هذه المرحلة أنه قد لا تستطيع أي من الجهات أن تحقق أهدافها الخاصة في السودان إذا كانت تستهدف الفوضى والانفصال ولكن بدون شك فإن مثل هذه التوجهات غير المدروسة قد تزيد من أمد الصراع وتعطل حركة التقدم في البلاد، وذلك ما يساعد القوى الأجنبية في إيجاد الذرائع من أجل تحقيق أهدافها في البلاد.
ومؤدى قولي هو يجب أن يكون هناك ضرب من التعاون على أسس جديدة بين السودان ومصر من أجل تجاوز هذا الواقع ومن أجل تأسيس دولة السودان الحديث بعيدا عن الاحتراب ونزعات التقسيم والانفصال.