رهان الإسلاميين المزدوج
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
حازم صاغية
ثمّة أصوات تتردّد الآن في أرجاء العالم العربيّ، وفي بلدان الغرب وإعلامه أيضاً، تحذر من استبدال "الاستبداد العسكريّ والديكتاتوريّ" بـ"استبداد إسلامويّ وأصوليّ". فالإسلاميّون، "الإخوان" منهم والسلفيّون، يلعبون أدواراً نافذة ومهمّة في الانتفاضات العربيّة، وقد نجحوا، في بلد كتونس، في أن يحصلوا، من خلال انتخابات برلمانيّة لم يطعن أحد في نزاهتها، على قرابة 42 في المئة من المقاعد. وكذلك يُقدّر لهم في مصر، مع الانتخابات المفترضة، أن يحصلوا على نتائج قد تفوق ما حصلوا عليه في تونس.
وأصحاب المخاوف لديهم ما يسندون به مخاوفهم من حجج وجيهة. فالإسلاميّون العرب لم يُعرفوا، تاريخيّاً وتقليديّاً، بأيّ هوى ديمقراطيّ، بل يمكن إدراجهم في خانة الحركات التوتاليتاريّة التي تأثرت، منذ نشأتها الأولى، بالأحزاب التوتاليتاريّة الفاشيّة في أوروبا. وهم منذ عهد مؤسّسهم في مصر، حسن البنا، رفعوا شعار "القرآن دستورنا"، تحفّظاً منهم على الدستور والدستوريّة "الغربيّين"، وذلك قبل عقود على ظهور نظريّات الإخوانيّ سيّد قطب عن "الحاكميّة" وعن العيش في الجاهليّة وتكفير المختلفين، وهي النظريّات التي نهلت منها جماعات التطرّف الدينيّ ثمّ شكّلت واحداً من مصادر وعي "القاعدة". وفي هذه الغضون ضلع "الإخوان" المصريّون في العمل العسكريّ والإرهابيّ للأربعينيات قبل أن يتعرّضوا لاضطهاد العهد الناصريّ، لاسيّما بعد محاولتهم اغتيال عبدالناصر في 1954. وهم لئن اصطبغ جهدهم في ليبيا بالنشاط العسكريّ لـ"القاعدة"، فإنهم في نضالهم ضدّ النظامين الاستبداديّين التونسيّ والسوريّ، لم ينجحوا دائماً في تقديم نموذج متفوّق أخلاقيّاً. ويكفي التذكير برشّ الأسيد في جامعات تونس على أرجل الصبايا "غير المحتشمات" في ملبسهنّ، أو تصفية الكوادر المدنيّة العلويّة ثمّ الارتكابات التي أقدموا عليها في مدينة حماة السوريّة في 1982، ما ساهم في التمهيد للمجزرة البعثيّة بحقّ المدينة.
إلى ذلك، ليس الإسلاميّون، أكانوا في مصر أم في غيرها من البلدان، معروفين بأيّ موقف مستنير من مسألتي حقوق الأقليّات الدينيّة والطائفيّة وحقوق المرأة. وهم كلّما حاولوا التظاهر بمراجعة المواقف هذه، أوقعوا أنفسهم في مزيد من التناقضات الدالة على تعثرهم وحرجهم. ولئن كانت مسألة المرأة محوريّة في كلّ واحد من بلدان العالم الإسلاميّ، أو غير الإسلاميّ، فإنّ مسألة الأقليّات ترقى إلى سويّة تكوينيّة تحكم النسيج الوطنيّ برمّته في بلدان المشرق العربيّ. ويزيد في الإلحاح على ضرورة امتلاك أفق ديمقراطيّ ومتسامح، أنّ الاستبداد العسكريّ في بلد كسوريّا، تقاطع مع لون طائفيّ وأقليّ على امتداد عشرات السنين. وهذا، بدوره، إنما راكم أحقاداً قد تهدّد بتفجير ذاك النسيج وإبطال ما تبقى من عناصر الوحدة القائمة.
ولكنْ في مقابل هذه الحجج الوجيهة المحذرة، هناك حجج مطمئنة لا تقلّ وجاهة بحال من الأحوال.
فالإسلام السياسيّ اليوم يعيش حقبة ما بعد "القاعدة"، حيث وصل الإرهاب الدينيّ إلى ذروته، ما يفترض التراجع المنظّم إلى سويّة سياسيّة. ويعزّز هذا الافتراض أنّ "الإخوان المسلمين" وسواهم ممّن كانوا ضحايا الاستبداد العسكريّ، سيجدون أنفسهم محرَجين جدّاً إذا ما مضوا في تعطيل الحياة السياسيّة لبلدانهم، خصوصاً بعد مشاركاتهم المرتفعة النبرة في الدعوة إلى الديمقراطيّة والدولة "المدنيّة". ولكنّ الحقبة المذكورة ليست فقط حقبة ما بعد "القاعدة". إنّها أيضاً حقبة ما بعد الفشل المعلن والمدوّي لسائر نماذج الحكم الإسلاميّ النضاليّ، في سودان البشير وإيران الخميني وأفغانستان الطالبانيّة. وفي المقابل، فإنّ النموذج الإسلاميّ المخفّف الذي يعلن الإسلاميّون العرب تأثرهم به هو تحديداً النموذج التركيّ الذي استطاع أن يجمع إلى إسلاميّته الحفاظ على الديمقراطيّة البرلمانيّة والعضويّة في حلف "الناتو"، فضلاً عن سعيه الانضمام إلى الاتحاد الأوروبيّ. وبغضّ النظر عن القابليّة الفعليّة لاستلهام النموذج التركيّ، وعن مدى الصدق في إعلان تبنيه، تتزايد الأصوات التي تتحدّث عن "إسلاميّة ديمقراطيّة" تحاكي المسيحيّة الديمقراطيّة في أوروبا، ناحية منحى ثقافيّاً وتربويّاً يغلب منحاها السياسيّ، وممتنعة عن استخدام جهاز الدولة للتدخّل في حيّزات الحياة الخاصّة والشخصيّة للمواطنين.
وإلى ذلك هناك دور الغرب. فتجربة "الناتو" في ليبيا، معزّزةً بالدور التركيّ "المسلم"، تشير إلى إمكانيّة الضغط والتأثير على نحو إيجابيّ. وإذا أضفنا أنّ إسلاميّي سوريّا بين أكثر معارضيها جهراً بطلب تأمين الحماية للمدنيّين، أمكن الرهان على مناخ مختلف من الثقة المتبادلة بما يعكس تحوّلاً ملحوظاً في الوعي العربيّ الإجماليّ: ذاك أنّ أوّل ما أعلنته الانتفاضات هو تحديداً انتقال العدوّ من كونه "الغريب" إلى كونه الحاكم المستبدّ "القريب". وفي مناخ كهذا، يصار إلى تنفيس الكثير من مصادر الريبة التي استحكمت طويلاً في السابق. ولنا، هنا، للتأكد من احتمال وجود هذه المساحات المشتركة من حيث المبدأ، أن نشير إلى تجربة الإسلام البلقانيّ (البوسنة وكوسوفو) مع الغرب، بل إلى علاقة "الإخوان المسلمين" المصريّين أنفسهم بالسياسات الغربيّة إبّان التلاقي ضدّ الاستبداد الناصريّ.
وفوق هذا، وعلى ما بادر إسلاميّو تونس إلى إبدائه، سيكون الاقتصاد ومصالحه المشتركة في هذا العالم المعولم أحد أمتن الروابط التي لابدّ أن تترتب عليها تأثيرات سياسيّة وثقافيّة تضمن، إلى هذا الحدّ أو ذاك، احترام الدستور والمرأة والأقليّات.
ولا يفوت على دارسي الحركات الإسلاميّة ملاحظة مستجدّات إيجابيّة أخرى، في عدادها امتهان التواصل الاجتماعيّ، والتشارك، إبّان الانتفاضات، مع ليبراليّين ويساريّين ونساء، ومع مسيحيّين ومسيحيّات، في جهود مشتركة. فهذا وذاك يفتحان، من حيث المبدأ، على عوالم أوسع من عالم الخليّة الضيّق وتعاليمها المطلقة، وربّما على ظهور أصوات مختلفة ومنشقة داخل البيئة الإسلاميّة العريضة، علماً بأنه لا يزال من المطلوب اختبار هذا العنصر ومدى تأثيره الفعليّ.
وقصارى القول إننا حيال حجج وحجج مضادّة يصعب الحكم فيها مسبقاً، فضلاً عن عدم الدقّة في افتراض أن يتوحّد الإسلاميّون جميعاً عند ردود فعل واحدة، أو أن توحّد البلدان التي سيشاركون في حكمها عند استجابات ملزمة لا تتغيّر. أمر واحد يمكن القطع به، هو أنّ التزام الإسلاميّين بالعمليّة الانتخابيّة، أو عدم التزامهم، سيكون العامل الحاسم والمقرّر.