عنف الثورة المضادة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
حسن حنفي
ليست مهمة المفكر التعليق على الأحداث، ولكن من هول الأحداث العنيفة التي وقعت هذا الأسبوع لم يستطع الصمت أو مواصلة الحديث الثقافي. فالصمت تواطؤ، والحديث الثقافي والدم يسيل اغتراب وهروب.
لقد أثارت وثيقة إعلان المبادئ فوق الدستورية ثائرة الجميع. فلا شيء يعلو فوق الدستور. ولا مؤسسة مدنية أو عسكرية تخضع لرقابة مجلس الشعب الذي يمثل إرادة الأمة. ما زالت العقلية الفوقية هي التي تسود، العقلية التي تستبعد الجميع من التفكير والنقاش والمساءلة. وقد أعطي لها اسم شخص، نائب رئيس الوزراء، حتى تبدو وكأنها وثيقة شخصية وليست وثيقة تعبر عن نظام حكم سابق ما زال مستمرّاً في النظام الحالي بعقليته وإن لم يكن بأشخاصه. وكان الاعتراض عليها من كل الأحزاب والقوى السياسية. وكانت الحكومة التي تعبر عن لسان المجلس العسكري مسلمة بهذه الانتقادات، وتدخل في حوار مع المعارضين حول بنودها، خاصة المادتين التاسعة والعاشرة وعن جعلها استرشادية وليست ملزمة.
ولما طال الأمر، واقتربت الانتخابات، وما زالت النية قائمة على تكوين لجنة إعادة الدستور من داخل المجلس المنتخب ومن خارجه خوفاً من سيطرة الإسلاميين على الأغلبية فيه قررت المعارضة كوسيلة للضغط إقامة مظاهرة تسمى مليونية كالعادة من أجل التشجيع وشحذ الهمم في مرحلة تعوّد الشعب فيها على السلبية والاستبعاد عن المشاركة السياسية في فترة نصف القرن الأخيرة. مليونية مثل غيرها من المليونيات التي قد لا تتجاوز عشرات الألوف. ولمزيد من الضغط قرر مئات الاعتصام وسط الميدان دون إخلال بالنظام. قد تنفض تلقائيّاً من الملل والبرد.
وفجأة بدأ العنف المفرط بدعوى إخلاء الميدان، والمحافظة على الأمن والاستقرار. كان يمكن أن يحدث ذلك بالحوار أو بالحصار أو بقنابل الصوت. ثم بدأ العنف المفرط ابتداء من الغاز المسيل للدموع، والضرب المبرح بالعصي التي أصبحت حمراء من دم المصابين. ثم بدأ الرصاص الحي في القلب والصدر والدماغ وكأنها معركة مع العدو وليست مع مواطنين من حقهم التظاهر والاعتصام سلميّاً للتعبير عن مطالبهم المشروعة. وبدأت وسائل الإهانة: الجر من الشعر للفتيات، الدهس بالأقدام، تكالب خمسة أفراد من الشرطة على أحد المتظاهرين بـ"الشوم" وهو ملقى على الأرض لا حراك فيه وكأنه لا فرق بين مصر سوريا، بين القاهرة والإسكندرية والسويس من ناحية ودرعا وحمص وحماه من ناحية أخرى. وتجر الجثة من وسط الميدان وهي ما زالت تحمل يافطة المطالب إلى الرصيف كالشوال أو القفة. وتضرب أخرى وهي جثة هامدة. وتدهس ثالثة بالأقدام، وتركل بالأحذية دون احترام للموتى.
ومعظمهم من الشباب الذين لا ينتمون لأي تنظيمات حزبية أو قوى سياسية. هم شباب يناير الماضي الذين عادوا إلى التحرير بعد أن اختطفت منهم الثورة بدعوى حمايتها، وانتظر عاماً كاملًا حتى تتحقق أهداف الثورة ولم يحدث شيء يُذكر. ما زالت المحاكمات العسكرية، وقانون الطوارئ، وعدم إصدار قانون العزل السياسي لفلول الحزب المنحل، والتسويف في محاكمة رجال النظام السابق، وتمييع كل شيء. وكادت أحزاب المعارضة تختفي من الميدان وهي تتصارع، تصارع الأسود في الانتخابات والترشيحات والقوائم واللجان وعدد المقاعد في البرلمان القادم. يريدون حصد الثمرة وهي ما زالت تزرع في ميدان التحرير بعد أن جف الزرع الأول في يناير الماضي. وغاب المرشحون للرئاسة. وقد كانت فرصة لهم لإثبات وجودهم كممثلين للشعب ومحافظين على كرامته ومدافعين عن مصالحه. واكتفى البعض منهم بإصدار البيانات من منازلهم. بينما صمت بعض آخر منتظراً وقت الانتخابات الرئاسية حتى يتكلم وينافس ويصارع خارج الحلبة.
فلِمَ هذا العنف المفرط؟ هل هناك صلة بينه وبين الانتخابات في الأسبوع القادم لتأجيلها نظراً لعدم استتباب الأمن، وبالتالي استمرار المجلس العسكري في الحكم؟ لذلك كان أول بيان للحكومة والمجلس إجراء الانتخابات في موعدها "اللي على راسه بطحة يحس بيها"، وليس التحقيق فيما حدث في ميدان التحرير، وإراقة الدماء، واستقالة الحكومة حتى لا تتحمل وزر التاريخ، وليس إسقاط وثيقة المبادئ فوق الدستورية، وليس الإسراع في تسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة. هل الانتخابات والصراع حولها مجرد غطاء للتستر على الحكم العسكري، شكل الديمقراطية دون مضمونها؟ وهل إراقة الدماء في الميدان واستعمال العنف المفرط لا تستحق بياناً من المجلس والحكومة وليس الانتخابات في موعدها أم لا؟ إن جو عدم الاستقرار ربما كان مقصوداً من أجل الاستمرار في الحكم. بالإضافة إلى عدم الاستقرار الأمني في البلاد، في الموانئ والشوارع والطرق السريعة، والتعدي على المنازل والمواطنين في الطريق. وقد كان بإمكان الشرطة القيام بذلك وبالتعاون مع الجيش إذا لزم الأمر. وإن استمرار الاضطرابات الفئوية للعمال وصغار الموظفين من أجل وضع حد أدنى وحد أعلى للأجور ربما يكون مقصوداً أيضاً لخلق حالة عدم الاستقرار الأمني في البلاد لتبرير الاستمرار في السلطة.
لقد ضاع عام من عمر الثورة، منذ يناير الماضي إلى الآن حتى تحول الحكم الوريث إلى ثورة مضادة. وانتقل من حماية الثورة إلى إجهاضها. فالعسكر هم العسكر. وقد كانوا يعملون تحت إمرة الرئيس المخلوع على مدى ثلاثة عقود. فانتقلت الثورة تلقائيّاً من جديد عائدة إلى ميدان التحرير لتعود على بدء، وتبدأ من المربع الأول الذي انطلقت منه دون أن تستعد للخروج منه في مسار ثوري طويل. يسترد الشباب الثورة من جديد، الشباب الذي افتخرت مصر والعرب والعالم به أسوة بشباب العالم ومظاهراته في 1968 ضد النظام الرأسمالي الغربي والقيم الغربية. يطالب الشباب اليوم بما لم يطالب به بالأمس، بتكوين مجلس ثوري من فصائل الثورة ومن الجيش الذي حمى الثورة في البداية وتخلى عنها في النهاية من أجل الحسم الثوري في الأمور التي ظلت معلقة منذ عام بأكمله. وإلا فماذا تعني الثورة؟ لقد أصدر عبدالناصر قانون الإصلاح الزراعي بعد سبعة أسابيع من قيام الثورة لتحرير الفلاح، وتحويله من أجير إلى مالك للأرض. وأقام المحاكم الثورية، على رغم ما يقال عنها، من أجل التخلص من الباشوات والبكوات. وأصدر قانوناً بمجانية التعليم الجامعي بعد أن أصدر طه حسين في حكومة "الوفد" السابقة قراراً بمجانية التعليم العام. وقد تحول التعليم الآن في المرحلتين إلى تعليم خاص عن طريق المدارس الخاصة، والدروس الخصوصية، ومصاريف الدراسة، وبيع الكتب المقررة، والمذكرات المشفرة.
أما الوزارة الصورية المحاصرة بين ضغوط المجلس العسكري وثوار التحرير فالأكرم لها أن تستقيل حفاظاً على كرامة الشعب. فقد حمل الثوار رئيس الوزراء على الأكتاف، ولكنه لم يف بوعده. وقد استقال من قبل ثم تراجع عنها بأمر من المجلس العسكري. وتحية لوزير الثقافة الذي استقال كنموذج لباقي الوزراء خاصة اليساريين منهم. أتت الوزارة باسم الشعب. والآن العنف المفرط ضد الشعب. وإذا كان القضاء ما زال يحاكم قتلة ثوار يناير الماضي فمن الذي سيحاكم قتلة ثوار هذا الأسبوع؟ ومن المسؤول عن إجهاض الثورة بعد حمايتها؟ ومن المسؤول عن ضياع الوقت، عاماً بأكمله دون أن تتحقق المطالب الرئيسية للثورة؟ إن مستقبل مصر في خطر. تتنازعه فلول النظام السابق وأنصاره الذين ما زالوا متربعين في مؤسسات الدولة، الجيش والإدارة والإعلام. لقد تعلم الثوار بعد عام عدم الثقة بأحد، وبأن الثورة تعرف من قام بها، ولا تعرف من يحميها. يعلموا الثوار أنه لا يحافظ على الثورة إلا الثوار. ولا يقدر على الحسم الثوري إلا الثوار. فالثورة ليست فقط في اندلاعها بل أيضا في مسارها (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً).