مَن حمص هذه؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عوض السليمان
اعترض أحد طلابي على عنوان هذا المقال قبل إرساله، على أساس استخدامي لـ "من" بدل "ما" فأوضحت له أن حجارة حمص وترابها تستحق السؤال عنها بمن، فما بالك بثوارها وأجنادها.
بالطبع، لا يمكن لأي كاتب منصف أن يقلل من قيمة المدن السورية التي ثارت ضد النظام، أو يبخسها حقها. فمن درعا إلى عامودا، ومن اللاذقية إلى إدلب. ارتقى الشهداء وسالت الدماء، وهتف مئات الآلاف للحرية وللانعتاق من العبودية.
حمص حالة فريدة بمكوناتها، وثورتها، وتعاليها على الجراح، ونهوضها بعد كل غارة. ثقة شعبها بنفسه، وحبه للآخرين، أمر لا يختلف عليه اثنان. إنهم لا يحبون السوريين فقط بل يحبون العرب والمسلمين والإنسانية جمعاء. خلافاتهم معنا شديدة السطحية، ينسونها بابتسامة أو بتلميح لاعتذار. ويصبرون على الأذى. وما أجملهم وهم يواجهون الموت بالنكات والابتسامات.
اندلعت الثورة في درعا، لن ننسى فضلها على أبناء سوريا كلهم، والتقطت حمص شرارتها، وحملت شعلتها. بيد أن حمص لم تطفئ الشعلة بعد. ولن تفعل. في آخر اتصال بيني وبين صديق حمصي، قلت له، لقد أسرفوا في القتل، فماذا تفعلون. ردّ واثقاً، نحن ركبنا سيارة دون "أنارييه"، طبعاً لاحظ الحمصي أنني لم أستوعب الكلمة الأخيرة، فقال لي سياراتنا فيها السرعات إلى الأمام، وليس فيها سرعة إلى الخلف.
هذه الجملة البسيطة أعجبتني، ولقد ذكرتني، مع الاحتفاظ باختلاف اللغة، بموسى بن نصير رضي الله عنه، إذ قال عنه خصومه "مضى من عمره تسعون سنة لكنه لا يعرف كيف يستدير إلى الخلف". انتصر هذا القائد الفذ على جيوش إسبانيا بعددها وعدتها، لسبب واضح، وهو أنه لا يعرف كيف ينظر إلى الخلف. وكذا فعل تلميذه طارق بن زياد، إذ حرق المراكب، وقال "البحر من ورائكم والعدو من أمامكم، وليس لكم والله إلا الصبر. وانتصر التلميذ كما انتصر المعلم. لهذا ستنتصر الثورة السورية، لأن أهلها لا ينظرون إلى الخلف، ولا يعرفون التراجع.
منذ أن اندلعت هذه الثورة، دخلت عصابات الأمن وقطعان الشبيحة إلى حمص، وعاثوا فيها فساداً. وقتلوا من قتلوا، واستباحوا الديار والأموال والذرية. أراد النظام أن يزرع الرعب في قلوب أهل المدنية لإيقاف أهلها عن التظاهر. فما زادهم ذلك إلا تصميماً على الخروج.
لا أعتقد أن مدينة في العالم شهدت ما عانته حمص، وما زالت تعانيه، من قمع وتنكيل، ولو نزل ذلك العذاب على جبل لتصدع. لكن القمع زاد حمصَ ثباتاً وإيماناً.
دمرت أحياء حمص على رؤوس ساكنيها، الرستن، وتلبيسة والبياضة وبابا عمرو. ما لاقته غزة من العدو الصهيوني لا يصل نصف ما رأته حمص. ولكن أهلها تمثلوا قوله تعالى "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل". هذه الآية تؤكد انتصار حمص، إذ جاءت الآية التالية "فانقلبوا بنعمة من الله وفضل". وهذا وعد الله ولن يخلف الباري وعده.
منذ الأيام الأولى للثورة، أعلن أهل حمص ألا مجال للتراجع، ضاربين بعرض الحائط محاولات النظام لخلق الفتنة المذهبية، وقد استخدم النظام الوسائل الممكنة كلها في سبيل إجهاض ثورة حمص، حتى إنه منع عنهم الوقود، والغاز بل الحليب أيضاً، وقصف خزانات المياه في سبيل تعطيش أهلها وتجويعهم. فتقاسم الناس اللقمة، ودافعوا عن بعضهم بالصدور العارية. يخرجون كل يوم ليتظاهروا من جديد في الليل والنهار. وفوق كل ذلك يوزعون اللطائف والطرائف على سوريا والعالم كله.
إنني اليوم لست في صدد الحديث عن النكتة وأثرها ومصدرها. لكنني أعترف كإعلامي وأكاديمي أنني وقفت مذهولاً في أسلوب رد الحماصنة على الدكتور البوطي بسبب وقوفه مع النظام ضد الثورة والثوار، فبينما ذهب الكتاب والمحللون لاستقراء الأسباب وتحليلها والهجوم على الرجل. أرسل شاب حمصي رسالة إلى الشيخ، يقول له فيها، هل يفطر من أكل رصاصة في نهار رمضان. حاولت أن أكتب سابقاً مادة حول هذه الجملة، ولكنها بالفعل تحتاج إلى مراجعة في كتب علم النفس والإعلام، مما دفعني لقراءة هذه الطرفة مراراً والتفكر بكاتبها، والبيئة التي مدته بهذه الفكرة. يكتبون في الشابكة "النت" يا محلا النوم على صوت الدبابة. آخر إبداعاتهم أنهم اعترضوا بشدة على طلاء الدبابات والمدرعات السورية التي تقتل أبناءهم باللون الأزرق، وهو لون فريق الكرامة الحمصي. إذ طالب مشجعو الوثبة الحمصي أيضاً بالعدل وطلاء نصف تلك الآلات باللون الأحمر وهو لون فريقهم.
حدثني أحد الثوار في حمص، أنهم استطاعوا أن يقلبوا حياة الشبيحة جحيماً بوسائل بسيطة، منها أنهم يتفقون على التكبير في الليل بشكل مدروس ومتناوب بطريقة تمنع القتلة من النوم. وقد أفقدوا بهذه الطريقة صواب أولئك المجرمين، لدرجة أن ضابطاً منهم كان يمشي مع جنوده ويصرخ بهم، من غير وعي: تكبير، فيصيح الجند من ورائه: الله أكبر.
في حمص فقط صلى عشرات المسيحيين صلوات التراويح مع المسلمين في المساجد، تحدياً وقهراً للنظام الذي حاول أن يصور نفسه أنه مدافع عن المسيحيين ضد إخوانهم في الوطن. وفي حمص فقط يردّ الحماصنة على قول الأسد، بأن سوريا بخير والأزمة انتهت بالقول الأزمة بخير وسوريا خلصت.
وفي حمص فقط، وهي عاصمة الثورة ورافعة لوائها، يريد الحماصنة أن يسموا بناتهم حوران، وأولادهم حمزة الخطيب تقديراً لفضل درعا. بل يرشحون على صفحاتهم رئيساً لسوريا المستقبل من حوران أو من إدلب أو من اللاذقية، هم سوريا، وكل سوريا جزء من قلوبهم.
قلت سابقاً إن حمص هذه غيرت قواعد علم النفس، وتلاعبت بعلوم الإعلام. وإنه على الباحثين أن يدرسوا حمصَ، شعبها وبيئتها وأثرها في تطور العلوم الاجتماعية. لا أعرف كيف يستطيع النظام السوري أن يقهر حمص، فلم يقهرها هولاكو ولا تيمور لنك، وما روّضها يزيد الثالث، ولا العباس بن الوليد ولا أخوه إبراهيم. الذي يحاول أن يقهر حمص عليه أن يقرأ التاريخ أولاً حتى يعرف حجمه أمام عظمتها.