هل هبت ريح الربيع العربي على جيبوتي؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
مالك التريكي
من طرائف عام 2011، عام الثورات الشعبية العربية التي فجرها الألم التاريخي الممض، أن مجلة 'جون أفريك' سألت رئيس جيبوتي إسماعيل عمر قله إن كانت 'ريح الربيع العربي الكبرى قد هبت على جيبوتي'، فأجاب: 'هنالك في القرآن الكريم ذكر لرحلتي الشتاء والصيف. أما مفهوم الربيع، فلا وجود له عند العرب'!
تنصل من الجواب مغلف بمقولة أنثروبولوجية من الجنس الاستشراقي المعكوس. مقولة لم يجد رئيس تحرير المجلة فرانسوا سودان بدا من القفز عليها وعلى حقول ألغامها، مستأنفا السؤال بصيغة أخرى: 'فلنتحدث عن الثورة، إن كان هذا أنسب لكم'.
ولو كان الرجل عارفا بلغة العرب لحق له أن يسأل، متعجبا، قبل الدخول في صلب الموضوع (الثورة وعدواها الإقليمية وأشراطها المحلية): 'إذا كان مفهوم الزمان في الثقافة العربية على ما وصفت يا سيادة الرئيس، فما بال البحتري ينشد منذ قرون: أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد أن يتكلما'!
سئل إسماعيل عمر قله عن المعارضة، فقال إن 'التصور الذي يحمله هؤلاء السادة عن الديمقراطية هو التالي: إما أن يكون المرء زعيما أو أن يسعى إلى الانقلاب على الزعيم (...) بحيث أن الرغبة تكاد تتملكني في نشر إعلان يقول: مطلوب فورا: معارضون يتحلون بالمسؤولية'.
ومن أطرف الأوصاف التي أطلقها على معارضيه قوله عن أحدهم: 'إن مشكلته أنه يحب المال حبا جما. أي أن معارضته [لي] ليست سياسية في شيء، بل إنها غذائية.
ذلك أني قد حرمته من بقرته الحلوب'! وعندما سئل رئيس جيبوتي: 'لماذا تثير كثيرا من مشاعر الكراهية؟'، كان رده من جنس الرد الأول، حيث أجاب بأن 'ابن خلدون يقول إن هنالك وجهين لحكم العرب: إما بالسيف أو بالنبوة. وما أنا بنبي ولا بدكتاتور، وإنما أنا رئيس منتخب. وهذا لعمري صنف ممتنع، على ما يبدو، على أفهام بعض أبناء بلادي'.
وفر من الطرافة مسنود بقدر من الثقافة. فالشكر لرئيس جيبوتي على الإمتاع.
على أن الأمانة تقتضي الاعتراف بأن الرئيس السوري يمتح من بئر أعمق. فقد أثبت بكل جدارة أن عنده ما هو أطرف. فمن القائل عن قوات الفتك العابثة في سورية منذ شهور: 'إنها ليست قواتي. إنها قوات عسكرية تابعة للحكومة'؟ ومن القائل: 'أنا رئيس. [لكن] لا أملك البلاد'؟
رئيس يقول: أنا الرئيس، لكن اسألوا غيري. رئيس يسأل: هنالك قتل بالآلاف؟ وأنّى لكم التحقق من صحة الأنباء وصدق المزاعم وأمانة الأشرطة؟ أنى لكم ذلك؟ هنالك قتل بالآلاف؟ إن كان الأمر كذلك، فهي مجرد أعمال فردية.
لا دخل للنظام. لا دخل للمؤسسات. بل هي اجتهادات ووجهات نظر شخصية.
لا رأي فيها للنظام. النظام تنظيم منظم فلا يمكن أن يرتكب أعمال قتل ارتجالية. النظام مبرمج. النظام حاسب وحاسوب، فلا يمكن أن تصدر عنه أعمال القتل العفوية هذه. النظام قبيلة. أما أعمال القتل التي يهولها الإعلام المتآمر فإنها تحمل علامات الصعاليك.
وهؤلاء يأتمرون بأمر قوة أجنبية اسمها 'الحكومة'. يدورون في فلك كوكب آخر اسمه 'الحكومة'. فلا تسألوني عن مجرات شمسية لم تعهد العائلة تدبيرها إلي شخصيا. كل هذا القتل، على فرض حدوثه فعلا، هو أعمال غير محددة النسبة إلى أحد. أعمال لاشخصية. أفعال بلا فاعل. أفعال بلا ضمير. مجرد رمية من غير رام تقع رغم أنف الرئيس. رمية من غير رام تقع خلف ظهر النظام. والنظام، كما تعرفون، ليس في وارد الالتفات إلى الخلف لأنه نظام قائم على المؤسسات وليس على الأفراد.
كلام غريب؟ لكن هنالك ما هو أغرب: 'نحن لا نقتل شعبنا... ليس هنالك في العالم حكومة تقتل شعبها، إلا إذا كان من يقودها مجنونا'. المعنى؟
بما أنكم لم تصدقوني، في بداية الكلام التلفزيوني، بأني رئيس فرد مفرد بلا حكومة وبلا قوات، فها قد أسقطت الزعم بكوني رئيسا سقط عنه التكليف الدستوري والقانوني لأتذكر فورا أنه إذا كان هنالك شعب وحكومة فلا بد أن يكون هنالك قائد مكلف بهما معا، أي مسؤول عن الدولة بأسرها.
بل إني تذكرت أيضا أن الوصف الوظيفي لمنصب الرئاسة لم يكن ينص على شرط الجنون! لكني نسيت أيهما الممنوع: الجنون 'الاضطراري' الذي يأتي القائد موهوبا ومعززا به أصلا وابتداء، أم الجنون 'الاختياري' الذي يجدّ الحاكم ويركض في طلبه اجتهادا واكتسابا.