المنصف المرزوقي من مناضل حقوقي إلى رئيس
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
قاسم حسين
من كان يظن في مثل هذا اليوم من العام الماضي، أنه سيشهد مغترباً تونسيّاً منفيّاً يدخل قصر قرطاج ليلقي كلمةً ملهمةً لشعوب الربيع العربي؟ ففي الثالث عشر من ديسمبر/ كانون الأول، وقبل أربعة أيام فقط من حلول الذكرى الأولى لمفجّر الثورة التونسية (محمد البوعزيزي)، يرتقي منصة المجلس التأسيسي المنصف المرزوقي لأداء القسم، ثم يلقي خطاباً من تلك النوعية التي تدخل التاريخ.
هذا الرجل المغترب البالغ 66 عاماً، تخرّج طبيباً، وفي الخامسة والعشرين ألّف كتاباً عن محرر الهند المهاتما غاندي وفلسفته في اللاعنف. وفي مراحل أخرى من حياته التحق بالعمل الحقوقي، حيث شارك في تأسيس "اللجنة العربية لحقوق الانسان". فقد كان هاجس الدفاع عن المظلومين والمعذبين في السجون يقلقه، مع زيادة موبقات التعذيب الممنهج في عهد بن علي، الذي دمر مستقبل آلاف الشباب والشابات.
خطابه الأخير كان معبّراً عن أشواق كثير من الشعوب العربية الطامحة للتغيير والانعتاق من أسر العبودية والاستبداد. فقد دعا إلى مجتمع تعددي متسامح، قائم على مفاهيم العدل والحرية والمساواة. وكان خطابه مرتباً متوازناً ومتسلسلاً كمقال صحافي جميل، (له عمودٌ بصحيفة "القدس العربي").
ومن دلائل التوازن دعوته إلى تشجيع الاستثمار من دون خضوع للاستغلال؛ وحماية حقوق الشغّالين والمشغِّلين؛ والموازنة بين المحاسبة والمصالحة؛ فلا مكان للثأر في الدولة الجديدة، مع بعث رسالة مفادها أننا لن نخضع إلى ابتزاز القوة.
في خطابه الجامع، دعا إلى تنمية الهوية العربية والإسلامية؛ وإلى حماية المنقبات والمحجبات والسافرات؛ وحماية حقوق المرأة ليس على مستوى القوانين الشخصية بل في المجال الاقتصادي وحقوق العمل، كما اعتبر البطالة مشكلة كرامة قبل أن تكون مشكلة اقتصادية.
كان المرزوقي منصفاً في مواقفه، فقد أشاد بدور سلفه السبسي، وبالجيش التونسي، داعياً إلى حماية الشعوب العربية من جيوش الاحتلال الداخلي والخارجي. كما اعترف بدور النظام السابق في تأسيس دولة حديثة ونشر التعليم وتحرير المرأة، إلا أنه أسس لنظام دكتاتوري رفض مبدأ التداول السلمي للسلطة، وتفكيك الهوية الوطنية. وانتهى إلى تحويل النظام القضائي والأمني إلى لعبة بيد النظام السياسي، الذي اعتمد مبدأ الولاء قبل الكفاءة. وهي سياسة مكلفة، أنتجت عشرات الألوف من الموتى والجرحى والمهجرين والمعتقلين، طوال الثورات والهبات التي تفجرت منذ الثمانينات حتى الثورة الأخيرة.
كان أعضاء المجلس التأسيسي يتداخلون بين فقرات خطابه بالتصفيق، لكنهم هبوا على أقدامهم حين بلغ مقام الشهداء: "اللهم ارحم الشهداء الذين لولا تضحياتهم لما وقفت أمامكم هنا. وارزق ذويهم جميل الصبر والسلوان، وأعنهم على اكبر مصيبة تحل بإنسان، وهو فقد السند والحبيب". عبارات منمقة وبالغة التأثير، قوبلت بوصلة طويلة من التصفيق، أما هو فقد اختنق بدموعه وهو
يقول: "اللهم اشف جروح شبابنا الذين أضعف الرصاص أجسادهم، فهم مصدر فخرنا واعتزازنا". ومع هذه الفقرة طوى خطابه ونزل من المنصة، بينما وقف النواب يرددون أبيات شاعر الشباب:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة..... فلابد أن يستجيب القدر
في أبريل/ نيسان الماضي، كانت للمرزوقي لفتة منصفة حين تكلّم عن الخليج، وأعلن مساندته للنضال من أجل الحرية والكرامة في هذا الجزء من العالم العربي، ففي نظرته السياسية البعيدة أنه "لا سنة ولا شيعة، وإنما شعوب عربية تعاني من القمع والظلم والفساد، وترزح تحت الدكتاتوريات". أبقاك الله حكَماً منصفاً، وحاكماً عادلاً على الدوام... من أجل تونس التي أصبحت مختبراً للديمقراطية في زمن ثورات الكرامة العربية
التعليقات
الحوادث الكبيرة تكشف عن الرجال ولا تلدهم
محمد الحاج علي -نقول للذين لا يزالون يريددون مقولة الزعيم الواحد والقائد الأوحد، وإلى الأبد وما شابه من هذه العبارات المهترئة السخيفة، إن أمتنا أمة ولادة، كم عندنا من مثل المنصف المرزوق ومثل مصطفى عبدالجليل وآخرون كثر لم يحالفهم الحظ كي قدموا خدماتهم لأبناء جلدتهم، ليس لأنهم قصروا في ذلك بل لإن الطرق كلها سدت في وجوههم بفعل عصابات مافيوزية متخصصة بالنفاق والكم والكبت وافبعاد والإسكات، إلى أن جاءت شرارة البوعزيزي فأخذت تكشف عنهم، وأهم ما كشفته هو وجود قطاع عريض من الشباب على كل ساحة الوطن كل منهم مستعد أن يكون البوعزيزي أو المرزوقي أو المستشار عبدالجليل.