من تجفيف منابع الإرهاب إلى تجفيف منابع الوطن
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
منصور الجمري
الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي كان أفضل من يطبق نظرية "تجفيف منابع الإرهاب"، والمقصود بالإرهاب بحسب قاموس المستبدين هو كل شخص يتبرع بمال إلى فقير، وكل شخص يذهب إلى مسجد، وكل جمعية تستمد قوتها من علاقاتها الخدمية بالناس، كالصناديق الخيرية، وكل عمل خير تقوم به إحدى مؤسسات المجتمع المدني ولا يشرف عليها جهاز الأمن والمخابرات.
نظرية "تجفيف المنابع" انتشرت في أسلوب الحكم في البلدان العربية الأخرى، وهكذا فإن من يجمع مالاً للفقراء يمكن اتهامه بـ "تبييض الأموال"، ومن يساهم في تنشيط المجتمع عبر جهود تطوعية يمكن إلصاق تهمة التخطيط لعمل إرهابي، وباختصار فإن أي شخص وأي جمعية وأي حزب وأي هيئة لا ترتبط بالجهاز الأمني، أو بأحد الأجهزة الرديفة للأمن والاستخبارات، يعتبر في دائرة الاتهام ويجب تجفيف منابعه.
وعبر أساس هذه النظرية (المتبعة في أكثر من بلد حذوا بنهج بن علي)، فإن القيود الرسمية الصادرة من جهات الدولة ازدادت، بل أصبحت حتى وزارات مثل "الشئون الاجتماعية" جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية الأمن والمخابرات، لرصد وتدمير أي مبادرة اجتماعية ترتبط بخدمة الناس (حتى الحصالات التي تجمع أموالاً للفقراء يجب ضربها بشدة إذا لم تكن جزءاً من الجهاز الأمني، والجمعيات التي تساعد الفقراء تتحول بقدرة قادر إلى جمعيات لتمويل الإرهاب بصورة عبيطة ومن دون أي دليل)، وأي مبادرة اقتصادية يكون لها أثر مشهود يجب ضربها على أساس أن الاستراتيجية الأمنية تتطلب الضرب بيد من حديد كل المنابع التي تعتمد عليها الجماعات غير المرغوب فيها.
وفي الحقيقة، فإن خطة "تجفيف منابع الإرهاب" انتهت إلى أن المستبدين جففوا منابع الوطن، وحولوا الثروات العامة إلى ثروات خاصة، وصادروا الأموال ثم صدروها إلى حساباتهم المصرفية في الخارج (أمس فقط أعلن مصرفان سويسريان أنهما جمدا حسابين للمخلوع بن علي قيمتهما نحو 13 مليون فرنك، ما يعادل 14 مليون دولار أميركي)، هذا إضافة إلى الحسابات في مختلف العواصم الأخرى باسمه واسم أفراد عائلته، إضافة إلى الثروات التي تحولت من أملاك عامة إلى أملاك عائلية خاصة... وفي الوقت ذاته، ازدادت البطالة لتصل حتى إلى الجامعيين، وتم تبديد موازنة الدولة على ملاحقة الناس، وعلى الأجهزة الأمنية القمعية، بدلاً من صرفها فيما يخدم المجتمع.
تونس التي أشعلت أول ثورة شعبية في القرن الحادي والعشرين وطردت الشخص الذي نفذ هذه النظرية بدقة، أثبتت لنا أن هذه السياسة الرعناء لم تنفعه في شيء، وأملنا أن يتعظ الآخرون ويتوقفوا عن ملاحقة الأنشطة الخيرية والاجتماعية والاقتصادية القائمة على مبادرات تستهدف خير المجتمع... وأعلم أن هذه الدعوة لن تلقى آذاناً صاغية، ولكن تجب علينا النصيحة لمن يود الاستماع إليها؛ لأننا نرى أن تلك السياسة فاشلة، وهي تنتهي إلى تجفيف منابع الوطن، وتنقلب على من ينفذها في نهاية المطاف.