الثورات الاجتماعية: من وحي الحدث التونسي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يوسف مكي
موسم جديد أخذ مكاناً عاصفاً في عدد من البلدان العربية، يمكن أن نطلق عليه مجازاً موسم الانتفاضات العربية . إن هذا التطور يطرح بحدة على الكتاب والأكاديميين والمهتمين بالشأن العام سؤالاً مركزياً وجوهرياً: لماذا تندلع الثورات الاجتماعية؟ وهو سؤال حاولنا أن نقدم جواباً أولياً عنه، لكنه لا يزال بحاجة إلى المزيد من التحليل والتأصيل .
أمامنا في العلوم السياسية جملة من النظريات، لا بأس من المرور على بعضها بشكل سريع . تأتي الماركسية، في مقدمة النظريات التي تعرضت للانتفاضات والثورات، وقد انطلقت في تحليلها لها، من جوانب رئيسة ثلاثة: الجانب الاقتصادي، ويربط التطور الاجتماعي بتطور أدوات وعلاقات الإنتاج . والجانب التاريخي، ويرى أن قانون التاريخ، هو الصراع بين مختلف الطبقات، باتجاه مستمر إلى الأمام، بما يسهم في بروز قوى طبقية أكثر فتوة وحيوية . والجانب الفلسفي، وهو نتاج تطوير للجدل الهيغلي المتمثل في الفكرة والنقيض والطريحة . وهو جانب اهتم بدراسة قانون الحركة بشكل خاص، وتوصل إلى وحدة التضاد وتحول الكم، ونفي النفي . في هذه النظرية، نجد تركيزاً حاداً على الأوضاع الاقتصادية التي طغت على الجوانب الفلسفية والتاريخية، وتجاهلت أثر الأديان والتربية والعادات والثقافات والفنون والجوانب النفسية، واختزلت كل ما هو إنساني، في نوعية العلاقة القائمة مع أدوات الإنتاج . وفيما يتعلق بموضوع الثورات الاجتماعية، فإنها وفق هذه النظرية، حاصل غياب التكافؤ والعدل الاجتماعي .
في كتابه، ldquo;لماذا يتمرد الرجال؟rdquo;، يورد الكاتب تيد غير، أسباباً أخرى للانتفاضات والثورات . إنها في جملتها، تعبير عن غضب عام تجاه البناء الفوقي السائد، وهي بذلك، تجسيد لعمق المسافة القائمة بين البنائين التحتي والعلوي في المجتمع . إن منع الانتفاضات والثورات، يقتضي مراجعة مستمرة للسياسات القائمة، ومحاولة تضييق الفجوة بين البنائين، وهذا وحده الذي يحقق الاستقرار والسلام الاجتماعي .
في الحديث السابق، أشرنا إلى تيدا سكوكبول، وذكرنا أن أسباب الثورات الاجتماعية، من وجهة نظرها، تكمن في عدم قدرة الدول على التنبؤ بحدوث الانتفاضات والثورات، وبالتالي عدم قدرتها على احتوائها، من خلال القضاء على مسبباتها . إن جميع الأسباب التي ذكرناها من وجهة نظرها، هي نتائج وليست مقدمات، والسبب الحقيقي هو عجز الحكومات عن قراءة مجتمعاتها، واستنباط الحلول ليس فقط من أجل مواجهة المشكلات، وإنما للتهيؤ للمستقبل، بالحيلولة دون بروز الظواهر السلبية، اعتماداً على القول المأثور: درهم وقاية خير من ألف قنطار علاج .
في المشهد التونسي، كان العنصر الأساس، هو شعور المواطن بالغبن، نتيجة استفحال حالة الفساد .
والتطورات التي أخذت مكانها تحمل أوجهاً مشابهة لما جرى في مصر في 23 يوليو عام 1952م . تحدث فوضى في مصر، وينشب حريق القاهرة، وينزل الناس إلى الشوارع . وتعلن حالة الطوارئ، فيعلن الجيش، أولاً عبر نادي الضباط، الذي يرأسه اللواء محمد نجيب، أول رئيس للنظام الجمهوري، ولاحقاً عبر تنظيم الضباط الأحرار، عن انحيازه للشعب . ويقوم بانقلابه الذي ينصّب فيه ابن الملك على العرش، ويكلف رئيس الوزراء، علي ماهر، أحد رجالات البلاط الملكي رئاسة الحكومة، ثم لا تلبث الأمور أن تتكشف لاحقاً، فيسيطر الجيش بشكل كامل على البلاد، ويتولى إدارة الدولة والمجتمع، ويجري تحريم العمل الحزبي، وتشهد مصر تطورات عاصفة، وتحولات تاريخية استمرت عدة عقود، بقيادة المؤسسة العسكرية التي أعلنت صيانتها لمصالح الشعب .
في تجربة تونس، أمامنا تجربة مشابهة لما حدث في مصر، رغم أن السيناريو لا يزال في بدايته . لكن المقدمات تشي بالنتائج، فالجيش كما يبدو يدير التحولات السياسية في تونس من خلف حجاب شفاف . ورئيس الحكومة، محمد الغنوشي، يؤلف حكومة، وزاراتها السيادية بيد أقطاب النظام السابق، والرفض الشعبي لهذه الخطوة يبدو منطقياً وطبيعياً، باعتبار أن التشكيل الجديد للحكومة لا ينبئ بأن ثمة شيئاً جذرياً قد تغير . والجيش ينتظر اللحظة الحاسمة، ليؤكد حضوره كقوة فاعلة وقادرة على تكنيس مخلفات الماضي، لكن لمصلحة هيمنة مؤسسته . والفراغ السياسي، الذي استمر أكثر من سبعة عقود يجعل هذه المؤسسة دون غيرها المهيأة للعب الدور الأساسي في صناعة التاريخ الجديد للجمهورية التونسية .
أطاح التونسيون بنظام جثم على صدورهم منذ انتزعوا استقلالهم عن الاستعمار الفرنسي، ولم ينفض حتى هذه اللحظة موسم فرحهم، ولا يوجد على السطح ما ينبئ بنهاية انتفاضتهم . إن المراقب للمشهد السياسي بالشارع التونسي، يشاهد كرة ثلج تتضخم بشكل طردي، باتساق مع اتساع نطاق تحركها . فالذين التحقوا بالحكومة الانتقالية، بعد إعلان رحيل الرئيس زين العابدين بن علي عن سدة الحكم، ومنهم أعضاء بارزون بالاتحاد التونسي للشغل، أكبر قوة سياسية، بعد الحزب الحاكم، طوال العقود المنصرمة، تراجعوا عن قرارهم، وتضامنوا مع المطالبين بتكنيس آثار المرحلة السابقة، بكل عناوينها . وأعضاء الحزب الدستوري، الحاكم سابقاً، أعلنوا عن حل مؤسستهم . ورئيس الوزراء والبرلمان، قدموا استقالتهم من الحزب . ومن جديد يرفع شعار الاجتثاث الذي طبع مرحلة ما بعد الاستقلال . وهو سلوك يبدو منطقياً بالنسبة إلى المنتصرين، وعبثياً وجائراً في مخيال المهزومين، وتعود من جديد صورة قهر الحرية باسم الدفاع عنها . إن ذلك لا يعني من جانبنا، دعوة إلى نسيان الماضي، وتجاوز الجرائم التي ارتكبت بحق البلاد والعباد . ولكن التمييز ضروري بين المجرم الذي ينبغي أن يحاسب على جريمته، مع ضمان كافة الحقوق القانونية له في المحاكمة، وبين الأبرياء الذين انخرطوا عنوة في الحزب الحاكم، وكثير منهم اتصفوا بالنزاهة والصدق، ولم يتلوثوا بالفساد، أو يمارسوا الإفقار والاضطهاد بحق شعبهم . إلا أن للعواصف والأعاصير قوانينها، والنيران حين تضطرم، لا تقف عند حد، بل تأخذ في طريقها الأخضر واليابس، فيسقط في محرقتها المسيء والبريء، وفي النهاية، يذهب الزبد جفاء، ويمكث ما ينفع الناس في الأرض .
رؤية ما بعد الانتفاضة، مهما تكن دقيقة، لن تكون مكتملة لأن تفاصيلها، في ظل الوضع السياسي التونسي مربكة ومعقدة . على أن ذلك، لا يمنع من محاولة الغوص في اللجة لمعرفة القوى الاجتماعية والسياسية الفاعلة الآن بالحدث .
في الثورات الإنسانية الكبرى، لا يستطيع المشاهد تقرير من هي القوى التي ستتسلم في النهاية مقادير البلاد، فغالباً ما تكون الأحداث من فعل التاريخ، وليست صناعة لحركة أو حزب سياسي معين . لكن الأذكياء من السياسيين هم الذين يقتنصون الفرصة، فيلتحقون بالتيار، ويعملون بعد أن يتكلل الفعل بالنجاح على أن يكونوا في مقدمته، قاطفين ثمار التضحيات التي قدمها المعدمون والجياع، ولا يتردد هؤلاء في النهاية عن الإعلان أن ما حدث كان من صنعهم، ومن وحي عبقريتهم .
أمامنا موسم عاصف، وتحولات تاريخية ستحدد طبيعة المشهد لسنوات مقبلة، ولا مناص من الاستمرار، بأحاديث قادمة، في قراءة وتفكيك ما يجري، علّنا نتمكن من الإسهام في تسليط الضوء على بصيص أمل للخروج من النفق .
yousifmakki@yahoo.com