ميدان "التحرير"...وإشكالية المرحلة الانتقالية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
بهجت قرني
كانت نيتي في مقال اليوم، تكملة ما بدأته في مقالتي السابقة منذ أسبوعين عن أحداث تونس المفاجئة والهائلة، لكن مصر، كما يقول الشارع ببساطة معهودة، "خطفت اللعبة".
ومن أظرف التعليقات التي سمعتها فيما يتعلق بمن سيفوز بهذه المباراة الشبابية الجميلة بين كل من تونس ومصر، هو ضرورة تنظيم دوري نهائي بين البلدين! وأعتقد أن ما سيحدد الفوز فعلاً لأي من الفريقين ليس ثورة البوعزيزي في سيدي أبوزيد، أو ثورة ميدان التحرير في قلب القاهرة المزدحم بالمحتجين، بل ما بعد نظام بن علي في تونس وما بعد 25 يناير في مصر.
كان هذا في الواقع من أهم الموضوعات التي بدأت مناقشتها مع بعض طالباتي وطلابي المتمركزين وراء متاريسهم أو القابعين في خيامهم على أرضية ميدان التحرير. منذ 13 يوماً وأنا أذهب بشكل يومي تقريباً إلى هذا الميدان، وقد أقلع عن الذهاب يوماً عندما يزداد إرهاق التنقل والإعياء. وقد ارتبطت بصداقات سريعة مع كثيرين وكثيرات دون أن أعرف أسماءهم أو وظائفهم، لكنهم كانوا من طبقات اجتماعية مختلفة، وبعضهم كان في موقف اقتصادي صعب، سواء لأنه لا يعمل منذ فترة طويلة، أو لأنه لا يجد السيولة بسبب إغلاق البنوك، فالكثير من البسطاء لا يعرف كيف يستعمل ماكينات الصرف الآلي، وحتى لم يسمع عنها. كنت أتردد في أن أخبر بعضهم بوظيفتي كأستاذ بالجامعة الأميركية حتى لا يشعروا بالفارق الطبقي، وإذا أصر أحدهم على معرفة الإجابة حتى لا تكون عنده شكوك أو مخاوف حول هويتي، كنت أعطيه الإجابة على أن يقبل شرطاً أساسياً: أن نقتسم طبق كشري من أحد المطاعم الشعبية القريبة، حتى يكون بيننا "عيش وملح" كما يقول بسطاء الشارع المصري.
وبالرغم من اختفاء الفوارق الطبقية في ميدان التحرير من الناحية الرسمية، حيث لم يكن هناك ألقاب، مثل يا "بيه" أو يا "باشا" أو يا "هانم"، فإنه من الناحية الفعلية كان هناك نوع من التمايز الطبقي من حيث تركز المتظاهرين في أركان مختلفة من هذا الميدان الواسع.
كان هناك بالتأكيد ركن لشباب وشابات الجامعة الأميركية الحاليين وخاصة السابقين، وكذلك بعض الشباب والشابات الذين يشتركون معهم سواء من حيث المستوى الاجتماعي أو التوجه الثقافي القيمي. كان بعضنا يسميهم شباب أو شابات "بسكوتة"، أي أنهم رقيقون زيادة عن اللزوم أو معتادون على الرفاهية وحتى الدلع الزائد، وبالتالي فإن درجة تحملهم ضعيفة أمام أي ضغوط أو صعوبات، لكنني رأيت أن هذه الفكرة خاطئة جداً، بل رأيت هؤلاء الفتيان والفتيات وراء المتاريس وفي حالة تأهب واستعداد كما لو أنهم يخوضون حرباً، وذلك يوماً بعد يوم في هذه الأيام الثلاثة عشر. ورأيت الكثير من الفتيات لأول مرة على طبيعتهن تماماً، دون أي "ماكياج"، وحتى غير قادرات على فتح عيونهن تماماً بسبب قلة النوم.
ومن أجمل اللافتات التي لفتت نظري إحداها التي كان يمسكها أحد هؤلاء الشباب وهو في حالة إعياء وتقول: "... عاوز أروح استحم". عندما وصل بي الإرهاق أحياناً مداه، وظهر هذا في قدرتي على الوقوف على قدميَّ، كان يعرض عليَّ أحد هؤلاء الشباب دخول الخيمة للراحة قليلاً، لكني كنت أتردد في أخذ مكان من هم أكثر مني إرهاقاً وإعياءً. رغم هذا الإجهاد الجسماني، أرجعتني تجربة ميدان التحرير أكثر من 42 عاماً إلى الوراء: إلى أيام الدراسة في جنيف ثم الاشتراك بشكل غير مباشر في ثورة الشباب الفرنسي المعروفة: "ثورة مايو 1968".
وبين مايو سنة 1968 في أوروبا، ويناير سنة 2011 في كل من تونس ومصر، جرت أمور وتحولات كثيرة في العالمين العربي والأوروبي، إلا أن المشترك على الجانبين كان هو كلمة "الرحيل". فقد انتهت ثورة مايو 1968 بإجبار زعيم فرنسا ومحررها التاريخي، الجنرال شارل ديغول، على الرحيل، وكان هذا إلى حد كبير باختياره بعض الشيء. لكن بن علي لم يرحل باختياره ولا بإرادته، هذا علاوة على فرق آخر هو أن ديجول كان كبيراً؛ سواء في علو قامته أو في غنى الميراث السياسي والتاريخي الذي تركه وراءه.
وفي كل ذلك تبقى نتائج الشوط الثاني والأصعب: ماذا بعد؟ لعله هذا أحد أهم الأسئلة حالياً.
كان شباب وشابات ميدان التحرير -سواء وراء المتاريس أو داخل الخيام- غير مستعدين بَعْد للنظر إلى هذا السؤال الرئيسي. كان بعض الكبار وحتى جيل الوسط مستعدين للسماع والتفكير، لكن فورة الحماس غلبت على جيل الشباب، فلم يفكروا في أي شيء إلا اللحظة الثورية. ومن الجائز أن إثارة السؤال: ماذا بعد بن علي؟ يثير من الخلاف أكثر مما يحقق من الاتفاق، لاسيما أن هؤلاء الشباب يدركون حقيقة كونهم في أشد الحاجة الآن للمحافظة على وحدتهم، إذ لا يزالون في بداية الشوط الثاني، المعقد والعصيب، والذي قد يزداد تعقيده في متاهات جلسات الحوار المختلفة، الحوار بين أطياف المعارضة وفي داخلها، وبين المعارضة عندما توحد صفوفها وبين الحكومة.
هكذا تقول لنا تجارب التاريخ، إن أهم الأسئلة وأصعبها هي أسئلة ما بعد نجاح الثورة، أي كيفية حمايتها ودعم إنجازاتها إن وجدت.