المرونة في الأردن لا تعني بالضرورة ضعفاً...
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
خيرالله خيرالله
هذه ليست المرة الأولى، ولن تكون على الأرجح الأخيرة، التي تشهد فيها المملكة الأردنية الهاشمية ضجيجاً وصخباً ينتهيان كما العادة إلى أن يكونا مجرد زوبعة في فنجان. جديد هذه المرة أن هناك محاولات لاستغلال مواقف صادرة عن ضباط متقاعدين وشخصيات ذات خلفية عشائرية شرق أردنية للنيل من القصر الملكي ومن العرش وذلك عن طريق اتهامات قائمة في معظمها على إشاعات ليس إلاّ. هذا لا يعني من دون أدنى شك عدم حصول تجاوزات وارتكاب أخطاء وسوء اختيار لبعض المسؤولين الذين يشبهون اولئك الذين كانوا يحيطون بالرئيس حسني مبارك ويقولون له أن كل شيء على ما يرام يا "ريّس".
ولكن، كل هذا شيء، والوضع الأردني، على حقيقته، شيء آخر لا يمكن مقارنته بمصر أو تونس أو بما يمكن حدوثه في هذه الدولة العربية أو غير العربية، أو تلك في المستقبل القريب أو البعيد...
كانت أهمية الأردن، ولا تزال، في القدرة المتجددة التي تمتلكها القيادة الهاشمية على فهم الوضع في الداخل وفي الإقليم واستيعاب خطورته والعمل على احتوائه ثم تجاوزه. مع الوقت، استطاعت المملكة الخروج من أزمات عميقة عائدة في معظمها إلى التعقيدات الإقليمية. تصدّت المملكة بإمكاناتها المتواضعة لموجات الهياج العربية المتنوعة البعيدة عن أي نوع من العقلانية. حصل ذاك عن طريق اعتماد العقل والتعقل والمنطق السليم بغية بلوغ ما كان يحلم به الملك حسين، رحمه الله، منذ صعوده إلى العرش شاباً صغيراً.
كان هدف العاهل الأردني الراحل وحلمه يتمثّلان منذ البداية في إقامة دولة مؤسسات من جهة ونظام قائم على التعددية الحزبية من جهة أخرى. بنى الحسين المؤسسات الأردنية خطوة خطوة وهو ما مكّن المملكة من مواجهة العواصف العاتية التي تعرّضت لها المنطقة ومعها الأردن. وبين هذه العواصف الحرب العراقية- الإيرانية التي استمرت ثمانية أعوام، ثم تدفق الفلسطينيين على الأردن في ضوء المغامرة المجنونة التي أقدم عليها صدّام حسين باحتلاله الكويت في العام 1990. هذا ما جعل انتقال العرش إلى الملك عبدالله الثاني يتم بطريقة سهلة، على غرار ما يحصل في الدول المتقدمة التي فيها أنظمة مشابهة، أي ملكيات دستورية.
استطاع الملك حسين الوصول إلى نظام قائم على نوع من الحياة البرلمانية المبنية على وجود أحزاب معترف بها، بعدما اجريت تحت اشرافه الإصلاحات السياسية المطلوبة التي توجت بانتخابات الثامن من نوفمبر 1989. كانت تلك التجربة مجرد بداية في حاجة إلى تطوير، لكن الأحداث التي شهدتها المنطقة، بدءا بغزو العراق للكويت والحرب الذي تلته عطلت التجربة الأردنية وان موقتا وحالت دون اكتمالها.
عاشت المملكة منذ قيامها على وقع الأزمات الإقليمية. كان على الملك حسين الدفاع عن عرشه وعن الأردن في استمرار. تعرض للظلم، ظلم ذوي القربى من العرب أوّلاً. صمد الأردن في وجه الانقلابات العسكرية والمؤمرات والمد الناصري بشعاراته الفارغة. واجه وحده الانقلاب العسكري الدموي الذي أطاح الحكم الهاشمي في العراق في الرابع عشر من يوليو 1958. في كل مرة، كان الأردن يخرج من المواجهة مثخناً بالجروح، لكنه ظلّ يقاوم. خسر القدس والضفة الغربية بعدما شارك في حرب العام 1967 تحت ضغط المزايدات والمزايدين. واضطر في العام 1970 إلى اخراج المقاتلين الفلسطينيين من أراضيه للمحافظة على القضية الفلسطينية وقطع الطريق على مشروع الوطن البديل الذي كان يشجع عليه اليسار الفلسطيني والأردني وقتذاك، وصار يشجع عليه الإسلاميون والقومجيون المطالبون بالغاء معاهدة السلام مع إسرائيل الآن. بين 1970 و2011، لم يتغيّر شيء لدى المزايدين. كانوا يساريين، فأصبحوا إسلاميين وقومجيين. كل طرف من هذه الأطراف يخدم إسرائيل بطريقته وشعاراته للأسف الشديد. المزايدات والشعارات الطنانة الفارغة هي ما يجمع بين كل هذه الأطراف التي كادت أن تقضي على الأردن...
لا حاجة إلى تعداد كل ما فعله الملك حسين من أجل الأردنيين ومن أجل قضية فلسطين ومن أجل العرب عموماً. ولا حاجة إلى تعداد ما يفعله حالياً الملك عبدالله الثاني من أجل التصدي للتحديات التي تواجه المملكة التي زاد عدد سكانها على نحو كبير في الأعوام القليلة الماضية والتي لا تمتلك أي موارد تذكر، إضافة إلى أنها تعاني من مشكلة خطيرة اسمها مشكلة ندرة المياه. أكثر من ذلك، كان على العاهل الأردني التعاطي مع مشكلة كبيرة لم تشهد المنطقة مثيلاً لها عندما أصرّ الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن على احتلال العراق واسقاط النظام فيه. لا يزال الأردن يعاني من الزلزال الإقليمي الذي تسبب به جورج بوش الابن والذي لا تزال تداعياته تهز المنطقة.
ما يميّز الأردن أنه يعرف كيف يدافع عن نفسه في أحلك الظروف. إنه يواجه الأطماع الإسرائيلية في الضفة الغربية ويساعد الفلسطينيين على المحافظة على أمنهم والتمسك بأرضهم. ويواجه خصوصاً الإرهاب والتطرف عن طريق نشر ثقافة إسلامية حقيقية تقوم على مبدأ الاعتراف بالآخر على حد تعبير عبدالله الثاني.
في كل يوم يمرّ، تبدو الحاجة أكثر إلى تفادي التلهي بالقشور والتركيز في المقابل على كيفية تجاوز المرحلة الراهنة بتعقيداتها وحساسياتها. الأكيد أن هناك انتهازيين يعتقدون أن عليهم، في هذه الأيام بالذات، استغلال أي ثغرات للنيل من العرش الهاشمي الذي يرمز إلى وحدة الأردن والأردنيين ورفضهم لمشروع الوطن البديل والاصرار على دولة المؤسسات التي لا تميّز بين مواطن وآخر. لكن الأكيد أيضاً أن الأردن قادر على تجاوز المرحلة الراهنة لسبب في غاية البساطة. يتمثل هذا السبب في أن عبدالله الثاني يعرف ماذا يريد الأردنيون، لكنه يرفض في الوقت ذاته الانقياد للشارع. لو قبل في الماضي الانقياد للشارع، لكان الأردن الآن في خبر كان. هناك في المقابل تفهم كامل لأي مطالب محقة للمواطن، بما في ذلك للحال الاقتصادية المتردية. ولكن هل يمكن الوصول إلى حلّ أو مخرج عن طريق نشر الإشاعات أو الاتهامات التي لا أساس لها من أي نوع كان، أم أن المخرج يكون بفهم أن المرونة التي تتسم بها تصرفات القصر الملكي والمؤسسات المختصة لا تعني ضعفاً في أي شكل من الأشكال بمقدار ما أنها دليل على أن نية استيعاب الجميع متوافرة شرط التخلي عن الشعارات الفضفاضة.
منذ متى تبني الشعارات، مهما كانت جميلة، أوطاناً، منذ متى تؤمن الشعارات الصمود في وجه ما تخطط له إسرائيل وما تهيئ للفلسطينيين وللضفة الغربية والقدس خصوصاً؟