جريدة الجرائد

أحداث مصر .. هوية الغضب وعولمة التغريب

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

مـحـمـد بن علي الـمـحـمـود

كنتُ قد أكدت في المقال السابق عن أحداث مصر ، أن الغاضبين / المُحتجين الذين هم وقود الأحداث الراهنة مختلفون جدا ، مختلفون فيما بينهم إلى درجة التضاد ، بل والتضاد التام أحيانا ، وأن لا هوية فكرية تجمعهم ، ولا رؤية إيديولوجية تُلمّ شعثهم المتبعثر على فضاءات ميادين هذا البلد العريق . كما أكدت على أنها حالة غضب ، ولكلّ غضبه الخاص ، وأن الغضب حالة عاطفية آنية ، تخفت أو تضمحل بتواري مصدرها أو ضمور تأثيره ، وأنها ( = حالة الغضب ) قد تقود الغاضبين سلبا أو إيجابا إلى أبعد مما يتوقعون .

( ثورة ) شبابية ؛ كما يُحب أن يسميها كثير من الوجدانيين . أيضا ، يؤكد الواقع على أنها ( ثورة ) لم تكن لتحدث على هذا النحو ؛ لولا ثورة الاتصالات الحديثة التي استثمرها هؤلاء الشباب إلى أقصى حدودها

لكن ، مع كل هذا ، يُجمع المراقبون من جهة ، كما يؤكد الواقع من جهة أخرى ، على أن هذا الغضب هو غضب شبابي ، أو ( ثورة ) شبابية ؛ كما يُحب أن يسميها كثير من الوجدانيين . أيضا ، يؤكد الواقع على أنها ( ثورة ) لم تكن لتحدث على هذا النحو ؛ لولا ثورة الاتصالات الحديثة التي استثمرها هؤلاء الشباب إلى أقصى حدودها ، في الوقت الذي وقفت فيه الأنظمة التقليدية منها ( = ثورة الاتصالات ) موقفا ارتيابيا ومتحفظا ، تحاول من خلاله أن تأوي إلى جبل يعصمها من طوفان العصر الحديث !.

لابد من البحث عن هوية لهذا الغضب ، لابد من تحديد بواعثه ، حتى ولو كانت بواعثه خفية ، أو خافتة ، أو غير مباشرة ؛ من أجل توقعٍ أدق لما يمكن أن تكون عليه الأحداث الراهنة ، ومن ثم ، لما يمكن أن يكون عليه المستقبل القريب..

إن شبابية هذا الغضب ، وانتماءها لجيل ثورة الاتصالات ، هما من مشخصات هذا الغضب ، لكنهما لا يكفيان لتحديد هوية هذا الغضب الجميل . كما أن الرايات واليافطات والشعارات الهامشية التي رافقت الأحداث ، والتي تحمل هموماً أيديولوجية ضيقة ، أو هموماً طائفية خاصة ، لا تستطيع الرقي إلى مستوى منح هذه الأحداث هوية جامعة ؛ فضلا عن كونها ، زيادة على هامشيتها ، متضادة ومتنافرة ؛ بحيث يستحيل أن تجتمع في تيار واحد ، أو على هدف واحد ، يتجاوز حالة الغضب التي تسكن قلوب الملايين .

عندما سئل بعض الشباب المسؤولين عن صناعة هذه الأحداث ، عن أهدافهم من حيث العموم ، قالوا جميعا : الحرية والديمقراطية . أي أن ما حرّكهم لم يكن هدفا أمميا ذا منحى عروبوي أو إسلاموي ، ولا إيديولوجيا ضيقة لا تتسع إلا لأتباعها ، وإنما هي مبادئ إنسانية عامة ( = الحرية الديمقراطية ) مبادئ تعولمت بفعل ثورة الاتصالات ؛ رغم كونها غربية المولد والنشأة ، غربية الصناعة والتصدير !.

لا شك أن هاتين الركيزتين ( = الحرية الديمقراطية ) هما ما اتفقت عليه جموع المحتجين في كل المدن المصرية التي طالبت بنظام جديد ، بنظام لا هوية له إلا الحرية ، ولا إطار ينتظمه إلا الإطار الديمقراطي القائم على مبدأ المساواة بين جميع المواطنين . هذا هو الإطار/ الشعار العام لهذا الاحتجاج الكبير .

ولقد دخل تحت هذا الشعار جميع المحتجين والغاضبين ؛ حتى أولئك الذين تتعارض إيديولوجياتهم الخاصة صراحة مع مضمون هذا الشعار ؛ ظناً منهم أن تحقيق غايات هذا الشعار من شأنه أن يفتح لهم الطريق إلى الهدف الخاص المنشود .

لا شيء في هذه ( الثورة ) ينتمي إلى تراثنا المجيد ، فضلا عن أن ينتمي إلى الرؤى الخاصة بالتقليدية والتقليديين في تراثنا . المفردات التي ترددت بقوة في هذه الأحداث ، وكانت محور التخاطب والتخاصم ، هي : الحرية ، الديمقراطية ، الانتخاب الشعبي ، حق الاحتجاج ، حق التعبير بلا حدود ، الوطن والمواطنة ، الرقابة على المال العام ..إلخ ، كلها مفردات جديدة على تراثنا ، كلها مفردات آتية من الغرب ، بل وليس من كل الغرب ، وإنما هي ، بالتحديد ، آتية من التراث الليبرالي الغربي الذي صنع ( ولا يزال يصنع ) هذا العالم الحديث .

شعوبنا ، كبقية شعوب العالم ، لم تكن تدري من قبل ، ما الحرية ، ولا الديمقراطية ، ولا ما هو حق التعبير . شعوبنا العربية والإسلامية ، كبقية شعوب العالم ، عاشت عشرات القرون ، وهي لا تعرف أن لها حقوقاً في المساواة التامة بين جميع المواطنين ، وأن من حقها العيش بحرية ، وأن الجميع شركاء متساوون في الوطن الواحد ، الذي هو وطن الجميع .

إن هؤلاء الشباب ليسوا نتاج ثقافة التقليد والتبليد ، ليسوا نتاج التتلمذ على ( نونية ) فلان ، ولا على ( منهاج ) علان ، بل هم النتاج الواقعي للانفتاح اللامحدود على ثقافة الغرب ، وعلى حياة الغرب ، تلك الحياة التي هي التجسيد الحي الملهم لثقافة إنسانية من حيث هويتها ، ثقافة كانت منذ قرنين أو ثلاثة ، ولا تزال إلى اليوم ، بل وإلى الغد ، تلهم الأجيال تلو الأجيال ، من أقصى الشرق المنغولي إلى أقصى أدغال الأمازون ؛ لتصل بالإنسان إلى أقصى ما فيه من ( إنسان ) .

إن مبادئ الغرب الليبرالي لم تكن في وقت من الأوقات قريبة من الناس كما هي اليوم ، وكل ذلك بفعل ثورة الاتصالات التي مكنت الجميع من رؤية هذه المبادئ في وقائع حية نابضة بالحياة ، وقائع حية تتجاوز فرضيات التنظير . بل إن ثورة الاتصالات في حد ذاتها ، هي ظاهرة غربية ذات أفق ليبرالي صريح . وهذا يتضح من خلال موقف التقليديين في كل العالم ، وموقف كل الثقافات الشمولية التي تلغي الفرد لحساب المجموع ، وموقف كل الأنظمة الشمولية الاستبدادية ، من هذه الثورة الاتصالاتية التي تسببت في إيقاظ ملايين الغافلين ، وكانت صاحبة الفضل في تنبيههم على حقوقهم التي لم تكن من قبل تخطر لهم على بال .

موجة الاحتجاجات في تونس ، ثم في مصر ، والتي أسقطت رؤوس النظام في كلا البلدين ، لم تكن لتنتهي إلى ما انتهت إليه ؛ لولا الضمير العالمي الذي يقف الغرب على سدانته منذ تكوّن هذا العصر الحديث . كان من الممكن أن تُقمع هذه الاحتجاجات ، كما قمع غيرها من قبل ، وأن تسحقها جيوش المستبدين . لكن ، كان الضمير العالمي يراقب عن كثب ، ووسائل الاتصال الحديثة ترصد بالدقة كل ما يجري ، ولم يكن بإمكان أي أحد أن يتجاوز هذا الضمير العالمي الذي قال صراحة : لا لمواجهة هذه الاحتجاجات بالعنف ، بل لم يكتف بذلك ، وإنما دعم معنويا موقف هؤلاء الغاضبين .

إذن ، المبادئ التي قامت عليها هذه الاحتجاجات / الثورة ( = الحرية ، الديمقراطية ، حرية التعبير ، حق الاقتراع ، المساواة في المواطنة المدنية ..إلخ ) وتوسلت بها ، هي مبادئ غربية ليبرالية صريحة في ليبراليتها ، والوسيلة التي مكنت من تفعيلها وتعميمها (= ثورة الاتصالات : الإنترنت والفضائيات ورسائل الجوال ) هي وسيلة غربية ليبرالية ، والضمير العالمي الذي حماها ودعمها ( ولولاه لهزمت في أقل من ساعة ) هو ضمير غربي ليبرالي ظل يراقب المشهد باهتمام كبير ، وبتدخل معنوي كبير أيضا .

لقد قال قادة الغضب كلمة تختصر هوية الغضب ، قالوا : نريد أن يكون التأسيس بلا قيود . ورغم لا معقولية / واقعية هذه المقولة في سياق المكان الثقافي ؛ إلا أنها ، في تقديري ، تتضمن ما يكفي للكشف عن الملامح العامة التي تؤطر هوية هذا الغضب الباحث عن مستقبل واعد ، مستقبل لا ينتمي إلا إلى روح العصر ، ولن يضيره احتضان بعض الهويات ، مهما كانت درجة تقليديتها أو تزمتها أو ماضويتها ؛ لأن الفضاء الليبرالي فضاء واسع من الحرية ؛ بحيث يسع خيارات الجميع..

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف