تبرئة «البلطجية» مما لحق بهم..!!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
سعيد حارب
ترددت كلمة البلطجية، أو البلاطجة كما ينطقها أهل اليمن، خلال الأيام الماضية على ألسنة وسائل الإعلام بصورة لم يسبق أن ترددت به من قبل، فمنذ "معركة الجمل" على أطراف ميدان التحرير، لم يغب لفظ "البلطجية" عن وسائل الإعلام بل ربما كان أسرع لفظ يدخل إلى القاموس الإعلامي العربي، للدلالة على مجموعة من الناس تمتهن الفوضى والعنف لتحقيق مآربها، أو مآرب من يدفع لها، وغالبا ما يكون نصيب البلطجية من التعليم قليلا، أو ممن يمتهنون وظائف بسيطة لا تدر لهم دخلا جيدا، ولذالك فإنهم "يؤجرون" جهودهم لمن يدفع لهم، ولذا ارتبط اسم البلطجية بالعنف غير المنظم، لكن التاريخ يشير إلى أن لفظ "البلطجية" ليس بذلك السوء الذي رسمه "البلطجية" المتأخرون، فقد كان السابقون منهم لا يحملون من هذه الصفات شيئا، إذ إن لفظ "بلطجي" التركي (ويعني صاحب البلطة) جاء إلى العالم العربي مع الوجود العثماني للدلالة على فرقة عسكرية كانت تحمل "البلطة"، وتتقدم الجيش لقطع الأشجار والحواجز التي قد تعترض طريقه، وكان من ينتسب لهذه الفرقة يسمى "بلطجي"، وقد حمل هذا اللقب عدد من القادة العسكريين والسياسيين في العهد العثماني منهم الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) بلطجي محمد باشا في عهد السلطان العثماني أحمد الثالث، وقد قاد بلطجي باشا جيشا قوامه مئة ألف جندي للحرب على روسيا التي كان يحكمها بطرس الأكبر عام 1711م، وقد استمر استخدام المصطلح في البلاد العربية التي كانت خاضعة للحكم العثماني، حيث أطلق بعد ذلك على قوات الأمن داخل المدن، ثم اقتصر إطلاقه على فرقة متخصصة لحماية النساء في الأسواق، خاصة في الحمامات العمومية، وكان أعضاء هذه الفرقة يحملون "البلطة" لتخويف المجرمين والمتحرشين بالنساء، ويتم اختيارهم من بين أصحاب المروءة والأخلاق للقيام بهذه المهمة إضافة إلى صفاتهم البدنية كالفتوة والقوة.
وقد غاب مصطلح "البلطجية" بعد العثمانيين فترة من الزمن ثم عاد في السنوات الأخيرة، حيث أطلقه الرئيس المصري الراحل أنور السادات على المتظاهرين عام 1977، لكن اللفظ عاد للتعبير عن صورة مخالفة -بعد ذلك- حيث أصبح يعبر عن حالة من استخدام العنف على يد بعض المجرمين، وقد تم توظيف هذه الفئة في أعمال كثيرة، وبخاصة أثناء المظاهرات، أو الانتخابات للتخلص من المعارضين، أو الضغط على الناخبين وإرهابهم، بل أصبحت حالة "البلطجة" حالة اجتماعية تمثل خللا في الأمن الاجتماعي، وليس العرب أو الأتراك وحدهم من يطلق على هذه الحالة لفظ "البلطجية"، بل إن شعوب الأرض تعرف مثل هذه الحالة مع اختلاف المسميات، ففي اللغة الإنجليزية تعرف هذه الفئة بـ "بولي" (Bully)، وهو لفظ دارج يطلق على من يقوم بأعمال "البلطجة"، حيث يطلق على معاني كثيرة منها الشخص الذي يرهب الناس، والمتنمر، وضيق الصدر، والخائف، والمرافق لغيره، كما يطلق -مع الاعتذار- على حارس العاهرات، وهذه الصفات يمكن أن تجدها في كل مجتمعات العالم، فلكل بلد "بلطجيته".
لكن "البلطجة" لم تتوقف على الجانب السلوكي بل أصبحت ثقافة لدى شرائح من المجتمعات، ويتعلق الأمر بسياسيين أو صحافيين أو مثقفين أو علماء دين أو غيرهم من شرائح المجتمع، فحين يسطر الصحافيون مواقفهم المخالفة للآخرين ممهورة بتهم الخيانة والردة والتحريض على الآخرين ممن يخالفهم الرأي، فهم يمارسون "البلطجة" ولا يختلفون عن البلطجية، بل ربما كانوا أشد منهم تأثيرا، وقد كشفت الأيام الأخيرة عن نماذج من هؤلاء الصحافيين "البلطجية" لا من الذين كانوا يعارضون ثورة مصر وتونس، بل من بعض الذين كانوا مساندين لها، إذ حمل بعضهم على من خالفهم الرؤية حملة شعواء، وغاب عنهم أن من حق غير المؤيدين أن يقولوا رأيهم ومن حقهم علينا أن نحترم هذه الآراء ونستفيد منها، فالحرية لا تتجزأ، كما أن من يعتقد أنه الوحيد الذي يستحق الحرية، فإنه لا يستحقها فعلا!! لقد أفرط بعض الكتاب في الصحف العربية في حملته على من كان له رأي مخالف في الأحداث ولم يتورع عن وصفهم بصفات كثيرة، وتلك أول نواقض الحرية التي قام الناس في مصر وتونس من أجلها، وإذا كانت البلطجة مرفوضة من طرف فيجب أن نرفضها من كل الأطراف، لكن الأمر لم يتوقف عند الكتاب فقد مارس البلطجة بعض المثقفين والفنانين وعلماء الدين الذين لم يتورع بعضهم عن وصف "الثائرين" في تونس ومصر بالغوغاء والدهماء، والعمالة والتبعية للآخر، وبأنهم يحملون أجندة أجنبية!!، بل طالب بعضهم بـ "حرق" من كان في ميدان التحرير!! وأفتى بعضهم بـ "خروجهم" من الملة، وأنهم "بغاة يجب أن تقطع أيديهم وأرجلهم أو ينفوا من الأرض!!"، فهل هناك "بلطجة" أكثر من ذلك!!، أما أخطر بلطجة فهي حين يتحول نظام سياسي إلى نظام "بلطجي" لا يتعامل مع شعبه بغير العصا والسوط!!، ولا يرى فيهم إلا أرقاما لا دور لها سوى التصفيق في مسيرات التأييد أو التنديد، ويعطل طاقتها وتفكيرها بالخوف والرعب، حتى يسهل قيادها، وهو لا يعلم أنه ينزع من شعبه إنسانيته ويجعل منه شعبا "بلطجيا"، تشيع بين أفراده ثقافة العنف والفساد والتمييز والعبودية.
لقد كانت البلطجة القديمة صفة للفتوة في الجيوش وحماة الأسواق، لكنها اليوم سمة لكل معاني العنف والهمجية، وغابت عنها قيم الشهامة والمروءة لتحل محلها صفة الغدر والخديعة، وتغيرت أدوارها من حماية الوطن خارجيا وداخليا، لتصبح أداة تخويف داخليا وتشويها خارجيا، لذلك حق علينا أن نعتذر لـ "البلطجية" الأوائل مما لحق بهم من جناية الأواخر!!