جريدة الجرائد

مصر والتغيير .. زمن الحلم الجميل

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

مـحـمـد بن علي الـمـحـمـود


غياب الوعي يُنتج ، بالضرورة ، غياب رؤية . وهذا ما نراه واضحا في كل هذه الاحتجاجات التي بدأت في التغيير . لهذا لم يكن مستغربا أن تجد أولئك الذين يرفضون (مبارك) ، ويصفونه بالاستبداد والفساد ، يرفعون في الوقت نفسه صور (عبد الناصر)

لا زلتُ أصرّ على أن ما يحدث في مصر سينتهي إلى سكون أو تسكين ؛ رغم كل ما نراه من صخب صاخب في (ميادين) التحرير أو في منابر التعبير . هناك تغيير بلا شك ، ولكن التغيير الحقيقي لا يتحقق بمجرد تغيير واجهة النظام ، ولا حتى باحتفاليات الفرح بسقوط هذا وقيام ذاك ، بل ولا بالحلم الجميل العابر لشروط والزمان والمكان .

التغيير الحقيقي لا يحدث بين ليلة وأخرى ؛ لمجرد العزم على التغيير عند فئة لا تمثل إلا أقل القليل من شعب لا يزال يرزح تحت طبقات متراكمة من ثقافة التقليد والتبليد ، تلك الثقافة التي لا تزال ، للأسف ، تهيمن على الوعي الجماهيري في كل أرجاء هذا العالم العربي المنكوب .

إن كل الثورات الكبرى التي استعصت على النكوص ، وكل الثورات التي قاومت كل محاولات التثبيت عند نقطة الانطلاق ، وكل الثورات التي تجاوزت فترات التراجع ، واستمرت جذوتها كامنة حتى في رمادها ، كانت مسبوقة بجدليات فكرية واسعة فجّرت المقولات الثورية في نفوس الجماهير. الثورة الفرنسية مثلا لم تكن لتحدِث هذا الأثر في فرنسا ، ثم في العالم أجمع ؛ لولا فلاسفة الموسوعة الذين جاهدوا في سبيل إرساء قيم جديدة مكان قيم بالية ، قيم علمية وعملية ، مكان قيم أفلست ولم تعد صالحة لتحقيق مبدأ (الخير العام) ، الخير الذي يسعد به الجميع ، أي تحقيق ما يتغياه مبدأ : " تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر قدر من الناس ".

هناك أمل كبير ، وهناك حلم جميل ، وهناك توق إلى التغيير ، وهناك ملل وتململ من الزمن العربي المكرور . لكن ، كل هذا لا يكفي ، خاصة في ظل غياب الوعي بشرطيْ : الثقافة والواقع . كل الثورات الكبرى سبقها ورافقها نقد وفحص لكل ما جرى في تاريخها المكون لوعيها . لقد تم فحص الوقائع التاريخية ذات الأبعاد الرمزية ، وحوكمت غيابيا ، وتم التعامل مع رموز التاريخ وشخصياته المؤثرة بما هو أشد من مجرد إصدار الأحكام بالإعدام .

ما يحدث الآن في العالم العربي ، ورغم كل ما يعد به من تغيير ، أو ما يعبر عنه من غضب ، لم يصدر عن وعي ، ولا هو يُعبّر عن وعي . صحيح أن الثورة أو الاحتجاج أو الغضب الذي يجتاح العالم العربي يعد بسلسلة من التحولات في المستقبل القريب . لكنه ، وبسبب غياب الوعي ، لن يكون بالضرورة تغييرا نحو الأفضل ؛ مع ما يحتمله من إمكانية أن يكون كذلك . ولهذا ، ورغم رفضي الكبير للواقع العربي الراهن ، لست في كل الأحوال متفائلا بما يحدث ، خاصة وأن كثيرا من المؤشرات تؤكد على أن تضحيات البسطاء الطيبين سيقطف ثمارها الجبناء الشياطين أو إخوان الشياطين !.

إنني ، وبصراحة ، لا يزال السؤال الكبير الذي يجتاحني ، ويجنح بي نحو التشاؤم ، يتحدد في : هل الذين يصنعون هذا الاحتجاج على الفساد والاضطهاد والاستبداد ، والذين يؤيدون هذا الاحتجاج ، والذين يتعاطفون معه ، يعون كيف تكوّن هذا الفساد الكبير ، وكيف تحول إلى ثقافة ، وما هي أنساق هذه الثقافة ، وأين تكمن النقطة الافتراضية للبداية بالتغيير ؟!...إلخ ، أم أنهم مجرد رافضين لواقع لا يعرفون قوانينه الثقافية الحاكمة ، ولا طبيعة أنساقه ، ولا كيف تتلبس هذه الثقافة حتى أشد الرافضين لها . وبصورة أخرى : هل يمكن ، أو هل يستطيع هؤلاء الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل مبادئ الحرية والعدل والمساواة والكرامة الإنسانية أن يكونوا أمناء على هذه المفردات في حال أصبحوا القيمين على تفعيلها في الواقع ؟ ، هل لديهم وعي كامل بطبيعة الثقافة التي تتحكم بهم في أعماق أعماقهم ، والتي تمسك بجذور وعيهم ، تلك الثقافة التي تمتد بعالمهم اللاواعي إلى ظلمات القرون الوسطى الإسلامية ، وتشدهم إليها من حيث لا يشعرون؟

طبعا ، لا أقصد بأية حال ، أن القائمين على إحداث هذا التغيير المأمول نحو الأفضل خونة على مستوى الوعي ، وإنما أقصد تحديدا أنهم ، ورغم حسن نواياهم على الإجمال ، عاجزون ، على مستويات اللاوعي ، عن حماية أنفسهم من الانخراط في ثقافة الاستبداد . إنهم ، إذ يقفون اليوم بصدق ضد هذه الثقافة وضد كل من يمثلها في الواقع ، يكتنزون في أعماقهم ، ومن حيث لا يشعرون ، هذه الثقافة أو كثيرا من مكوناتها ، ويحملون لها كثيرا من التبرير ، ولرموزها التاريخية كثيرا من التقدير . وهذا يدل على أن وجود التضحيات الكبرى في سبيل مفردات الكرامة الإنسانية لا يعني أنها هي التي ستنتصر في الأخير ، بل ربما ستكون هي بالذات إحدى ضحايا ذلك التوق اللاواعي للتغيير .

غياب الوعي يُنتج ، بالضرورة ، غياب رؤية . وهذا ما نراه واضحا في كل هذه الاحتجاجات التي بدأت في التغيير . لهذا لم يكن مستغربا أن تجد أولئك الذين يرفضون (مبارك) ، ويصفونه بالاستبداد والفساد ، يرفعون في الوقت نفسه صور (عبد الناصر) ، وأن تجد من يعقدون الندوات للتنديد بقمع الحريات في عهد (مبارك) هم الذين نظموا قبل بضع سنوات الندوات المآتمية لرثاء (صدام حسين) ووصفوه ب(الشهيد) ، ولا يزالون يذرفون الدموع عندما تمر بهم الذكرى العطرة لهذا (الشهيد) !.

الأمر هنا ليس مجرد أسماء عابرة ، بل هي رموز دالة ، تكشف عن أبعاد ومنطلقات التفكير ، تكشف عن طبيعة الوعي الذي أمامك . من حقك أن تغضب من مبارك ومن عهد مبارك ، وأن ترفضه بأقسى صور الرفض ، وأن تعدد مساوئ هذه الثلاثة عقود بلا حدود . لكن ، ليس من حقك أن تسحق كل إمكانات الوعي في الأمة ، وأن تمارس عملية استغباء لا محدودة ؛ بوضعك لكبار الطغاة الاستبداديين كرموز بديلة له ؛ مع أنه ( = مبارك ) لا يختلف عنهم في الدرجة فقط ، وإنما في النوعية أيضا ، بل إن المقارنة متعذرة ، بل ومستحيلة ؛ إلا في ظل خيانة كاملة وصريحة لكل بدهيات الضمير الإنساني ، ذلك الضمير الذي ينتمي إليه هذا الاحتجاج الكبير .

إن ما ترفعه هذه الاحتجاجات من شعارات تضع فيها غاية أهدافها ، ليس أكثر من إرادة حرية ، إرادة تتفرع عنها بقية مفردات مسيرة التغيير . ولا شك أن هذه الإرادة ، وخاصة في تعبيرها الصريح والمباشر ، تقف على الضد من الرمزية الناصرية أو الرمزية الصدامية التي يجري استحضارها عند بعض سدنة الحلم الجميل . هذه الإرادة (= إرادة الحرية) هي الأقرب ، وبمراحل تمتد لسنوات ضوئية ، إلى عهد مبارك ، منها إلى عهد صدام وعهد عبدالناصر ؛ حيث الإنسان المسحوق .

لا يعني هذا مباركة عهد مبارك ، ولا أنه الإمكانية الأفضل لارتياد زمن أفضل ، وإنما يعني أن رفض هذا العهد لا يجوز أن يكون لصالح عهود أخرى كالحة ، عهود الهزائم ، والمعتقلات ، والفقر الشامل ، وتكميم الأفواه ، ومحاسبة الضمائر...إلخ . إدانة عهد مبارك لا يمكن أن تكون إلا بالإحالة إلى تجارب أفضل منه ، إلى فضاءات إنسانية أكثر رحابة ، وليس إلى الأغاني الجميلة التي تمت صناعتها في أزمنة الطغاة ، وبطلب من الطغاة ؛ لترضي نرجسية أولئك الطغاة الذين لم يكونوا يرضون بما دون استرقاق ضمائر الجماهير .

أخيرا ، إن كان ثمة ما يمكن أن يقال في عهد مبارك ، فهو أنه عهد أجمل ما فيه ، أنه استطاع إنتاج الجيل الذي أزاح مبارك ، الجيل الواعي بحريته وبحقوقه .

إن قادة هذا الغضب هم شباب ولدوا في عهد مبارك ، ونشأوا في فضاءات نفوذه ، وتكونت رؤاهم على إيقاع آخر تطورات هذا العهد . ولهذا يحق لنا أن نقول : إن جيل مبارك هو الذي أسقط مبارك ، وإن لم يقصد مبارك ذلك ، أو نقول : إن زمن ما بعد مبارك خرج من رحم زمن مبارك ، وإن هذه الولادة الطبيعية تدل على أن ذلك الزمن صنع شيئا للمستقبل ، حتى ولو لم يتحقق هذا (الشيء) إلا بالخروج من ذلك الزمن الأول بالرفض الكامل له ، الرفض المنطوي على إرادة التغيير ، إرادة التغيير بلا حدود .

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف