الشعب الليبي يستحق غير هذا الديكتاتور
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
وليد نويهض
الخطاب الذي ألقاه العقيد معمر القذافي بعد أسبوع من حملات الإبادة ضد الليبيين يكشف عن عقلية إجرامية استعلائية تجتمع في خلاياها حالات من جنون العظمة والهلوسة الفكرية واحتقار الناس. برأي القذافي الشعب الذي ثار بعد 42 عاماً من الديكتاتورية هو حفنة من اللقطاء والفئران والجراذين والحشاشين يستحق القتل والإلغاء من الوجود.
هذا الخطاب يحتاج إلى قراءة ثانية ليتعرف العالم على مدى الظلم والقهر والاستبداد الذي تعرض له الشعب الليبي خلال فترة حكم الديكتاتور. ولكن المشكلة أن العالم يتفرج ولا يتحرك. وإذا تحرك فإن ما صدر عنه من تصريحات لا تكفي لتوجيه رسالة واضحة وقاسية لسلطة متشرذمة ومنغلقة على ذاتها. فالكلام الذي أطلقه مسئولون من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي جاء في معظمه متأخراً وبارداً ما يؤشر إلى وجود رغبة دولية في عدم التخلي عن الديكتاتور.
هناك مخاوف حقيقية من تردد عواصم القرار في دعم انتفاضة ليبيا. والمخاوف ليست مصطنعة لكونها جاءت في سياقات مختلفة تعليقاً على تلك الإشارات الخجولة التي صدرت من واشنطن وبروكسيل. فالولايات المتحدة تبدو حذرة في خطواتها. والاتحاد الأوروبي ليس متفقاً على موقف موحد. ومجلس الأمن غير معني كثيراً بأبعاد تلك المجازر التي هدد القذافي بارتكابها ضد الناس.
هذه الفضاءات الدولية تطرح السؤال بشأن الدوافع التي تقف وراء سياسة باردة قررت عواصم القرار استخدامها في التنبيهات والإشارات الصادرة عن المسئولين. فالكل تقريباً استنكر المذابح بأسلوب متعرج ومتخوفاً من توسع نطاقها. لكن الكل لم يرفق استغرابه الخجول بكلام آخر يتجاوز حدود الدبلوماسية كما حصل خلال انتفاضة يناير في مصر.
لماذا هذا التردد المخيف؟ هناك كلام عن مصالح اللوبيات والهيئات وتلك الرشاوى التي يغدقها الديكتاتور وأسرته على مراكز القوى في أوروبا وأميركا. وهناك من يتحدث عن سياسات نفطية معتمدة من قبل الديكتاتور تلقى الطمأنينة والارتياح من هيئات الطاقة وشركات التنقيب والتكرير والتصدير. وهناك من يشير إلى محفظة الديكتاتور المالية التي تقدر بأكثر من 80 مليار دولار تضاف إلى طاقة إنتاجية تتجاوز موازنة 37 مليار دولار سنوياً. وهناك من يلمح إلى وجود صفقات واتفاقات ومحسوبيات وصداقات خفية أقامها الديكتاتور بمعية أولاده مع شبكة من رجال الأعمال تدر المليارات على مؤسسات المال والعقارات في أوروبا وأميركا.
كل هذه الاعتبارات المصلحية شكلت قوة ضغط مضادة منعت الرئيس باراك أوباما مثلاً من التفوه بتصريح قاطع بشأن قتل الناس العشوائي وسحل المدنيين في الشوارع والأحياء. فالسكوت المغلف بإدانات خجولة تضع فعلاً علامات استفهام بشأن تلك الآليات التي تتحكم بالسياسات الخارجية في دول تدعي حرصها على الإنسان وحقوقه وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
التفرقة بين حدود المصلحة وحقوق الإنسان ترسم تلك الخريطة السياسية الغامضة في عناوين التعامل مع البشر. وهذا التمييز بين المال والحق ليس جديداً باعتبار أن مصالح الدول فوق كل اعتبار. ولكن المدهش في الموضوع تلك القدرة العجيبة التي تمتلكها عواصم القرار في التحايل على القوانين والتكيف مع أنظمة تصفها بالديكتاتورية والاستبداد وعدم احترام حقوق الإنسان.
هذه القدرة الفائقة في ابتكار الذرائع وابتداع المناورات والدوران حول المشكلات توضح أحياناً تلك الخطوط الزائفة التي تفصل بين حال وآخر ومكان وآخر. فهذا الإعجاب بالديكتاتور و "إسرائيل" يلقي الضوء على الكثير من الزوايا الغامضة التي تتحكم بالقرارات من وراء الكواليس ويعاد إخراجها على المسرح الدولي بطرق مختلفة وأساليب تكون تارة هزلية وطوراً مأسوية.
المواقف الأميركية - الأوروبية بشأن ليبيا مؤسفة من جانب وعديمة الجدوى من جانب آخر، لأنها تتعامل بهدوء وبرودة أعصاب مع خطاب مدمر ومتعجرف يهدد الناس بالسحق والقتل والسحل. والمواقف العاتبة والمستغربة والمستنكرة التي صدرت عن بعض المسئولين تبدو في مجملها متأخرة وباهتة وأقل بكثير من المطلوب.
المطلوب فعلاً قرارات لا بيانات، وخطوات لا تصريحات، لأن الكارثة الإنسانية تجاوزت الحدود المعقولة التي يمكن فهمها أو احتواء انفعالاتها ومضاعفاتها. والمهاتفة التي أجراها بان كي مون لمدة 40 دقيقة لا تكفي لتنبيه خطاب مصاب بالهلوسة وجنون العظمة وتحذير صاحبه من التمادي في خطة الاقتلاع والإبادة. كذلك البيان الذي صدر عن مجلس الأمن لا منطق له ولا قيمة في مناسبة تعرض شعب إلى الاستباحة من دون تمييز بين رجل وامرأة أو طفل وشاب.
ما قيمة الكلام الدولي إذا لم يصدر عن الفصل السابع في الأمم المتحدة. وما نفع التنبيهات الحذرة والباردة والمتأخرة إذا لم ترفق بإجراءات واضحة وصارمة ولا مجال فيها للتأويل أو المناورة.
المسألة فعلاً تحتاج إلى وقفة لمراجعة كل الخطابات التي تصدر عن عواصم تقرأ حقوق الإنسان بحسب المصلحة ومدى انتفاع اللوبيات من فائض مال هذا الديكتاتور أو ذاك. والمسألة في هذا المعنى لا تحتاج إلى ذكاء للتعرف على مستوى النفاق السياسي الذي يتمظهر دائماً في القضية الفلسطينية وأحياناً في موضوع التعامل مع الديكتاتوريين.
حتى الآن سقط نحو عشرة آلاف قتيل وجريح في طرابلس وضواحيها وجوارها، ولاتزال دول القرار إلى البارحة تدرس وتفكر وتستغرب وتستهجن وتبدي استنكارها للعنف بينما الديكتاتور بدأ بتنفيذ تهديداته بالسحل والقتل والسحق.
الوضع في ليبيا يختلف في تكوينه وظروفه وخصوصيته عن معظم دول العالم. فالديكتاتور نجح خلال أربعة عقود في تفكيك الدولة والنظام والمؤسسات وتمادى في تقطيع أوصال الجماعات الأهلية وتفرقتها إلى مناطق وجهات وقبائل وأحياء تراقبها وتلاحقها جيوش المرتزقة وشركات الأمن المستوردة من الخارج. ومثل هذا الوضع النادر في تفصيلاته يحتاج فعلاً إلى مساعدة لأن الداخل مجوف ولا يستطيع بقوته الذاتية حماية نفسه من ديكتاتور مصاب بالهلوسة وجنون العظمة.
خطاب القذافي الذي أطل به ومباشرة على الهواء يشتمل على فقرات تكفي لإلقاء القبض عليه ومحاكمته علناً وإدانته بجرائم حرب ضد الإنسانية. والخطاب لوحده يتضمن ويختصر 42 عاماً من الاستبداد والقهر والإذلال وهو يشرح من دون دبلوماسية سياسة لا تحترم أبسط الشرائع والحقوق الإنسانية. فالكلام المجنون والمتعجرف يشكل بحد ذاته إضبارة جرمية واتهامية تعطي الحق للأمم المتحدة أن تتحرك بقوة ضده لوضع حد لتلك المأساة التي تتعرض لها ليبيا.
الشعب الليبي (صاحب ثورة عمر المختار) يستحق الدفاع عنه وحمايته من جبروت الديكتاتور. يكفي هذا الشعب 42 عاماً من القهر والظلم والتشويه والعزل في الكهوف والأنفاق بعيداً عن المحيط والعالم. ويكفي الناس هذا الكم من السخرة والسخرية والإهانة اليومية وتخدير العقل وكمّ والأفواه وتعطيل الوعي ومنع الرأي الآخر. الشعب الليبي يستحق غير هذا الديكتاتور حتى يستعيد كرامته المهدورة ويسترد ماضيه المشرّف على أكثر من صعيد وميدان.