جريدة الجرائد

الطبيعة السياسية للانتفاضات العربية

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

وليد نويهض


أثارت الانتفاضات الشعبية والشبابية العفوية في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج المخيلة السينمائية والفكرية. فهناك الكثير من المخرجين في هوليوود أخذوا يضعون السيناريوهات لإنتاج أفلام عن الثورة العربية الكبرى (ربيع 2011). وهناك الكثير من المفكرين أخذوا بتسجيل الوقائع لإصدار كتب تدرس طبيعة الظاهرة الانفجارية (الاحتجاجية) وأسبابها ودوافعها ومدى نجاحها في تغيير شخصية "الشرق الأوسط" أو جنوب البحر المتوسط وشرقه.

القراءات كثيرة ومختلفة في تصوراتها بسبب تنوع الانتفاضات نتيجة امتدادها الجغرافي الهائل من المغرب وموريتانيا إلى اليمن وعُمان والبحرين والعراق وصولاً إلى إيران. فالأنظمة متخالفة في طبيعتها والمطالب متغايرة في توجهاتها. بعض الاحتجاجات تطغى عليها الحركة المطلبية (محاربة الفساد وتحسين الأوضاع المعيشية). وبعض الانتفاضات ذات طبيعة سياسية (إسقاط النظام وإجراء تعديلات دستورية). وبعضها الآخر تطغى عليه هواجس شعبوية (انقسامية) تتعانق مع دوافع طائفية ومذهبية وقبلية وجهوية ولونية (السودان وانفصال الجنوب رسمياً).

هناك صعوبة في جمع الانتفاضات في قالب واحد وإجراء تقويم مشترك لكل هذه الظاهرة. بعض المفكرين الأوروبيين يشبه الاحتجاجات العربية بتلك الثورات التي حصلت في القارة الأوروبية في العام 1848 وانتهت كلها إلى الفشل لكنها أسست قواعد ميدانية مهدت لاحقاً إلى تغييرات حقيقية وأطلقت علناً الحركة الشيوعية وبيانها التاريخي الذي كتبه الثنائي ماركس - انغلز (البيان الشيوعي 1848). بعض المفكرين يقارن الانتفاضات العربية العفوية بكومونة باريس 1870 التي انتهت إلى الفشل، لكنها أدت إلى انقسام الحركة اليسارية بين نزعة فوضوية طفولية (باكونين) وتوجه اشتراكي علمي منظم (الأحزاب الشيوعية). بعض المفكرين يتجه نحو مقاربة الاحتجاج الشبابي بثورة الطلاب في فرنسا في العام 1968 التي تركزت على إسقاط الرئيس (الجنرال شارل ديغول) وانتهت وظيفتها بخروجه من الرئاسة (الاستقالة بضغط من الشباب) لكنها ساهمت في إعادة الاعتبار للمعارضة الشعبية وأدت إلى إنتاج رقابة الشارع على السلطة. وهناك تحليلات تذهب إلى عقد مقاربة تشبّه الانتفاضات بتلك الثورات السياسية التي اجتاحت أوروبا الشرقية في العام 1989 وانتهت بإسقاط الأنظمة الشيوعية ونهوض بدائل تماثل الأنظمة الرأسمالية.

قراءات كثيرة وهي في مجملها تعتمد منهج المقارنة والتماثل والمقاربة بين النماذج التاريخية وما يمكن استنتاجه أو استنباطه من المشهد العربي الكبير من المحيط إلى الخليج. المقارنات والمقاربات التي صدرت حتى الآن لم تنجح في مجملها في التوصل إلى نوع من المطابقة بين المشهد الراهن وتلك النماذج التاريخية التي عصفت بالقارة الأوروبية في القرنين التاسع عشر والعشرين. وعدم القدرة على التشبيه يعود إلى اختلاط الأسباب والدوافع والأهداف وافتراقها في المسببات والنتائج كما حصل في تونس ومصر ويرجح أن يحصل قريباً في اليمن وليبيا.

عدم التطابق لا يلغي فرضية التشابه التي تحاول مناهج المقارنة أو المقاربة في تفسير عوامل الانفجار الشبابي - الأهلي وتنوع أشكاله وألوانه ومردوده المطلبي أو السياسي. عموماً لا يمكن عزل الحركة المطلبية (المعيشية) عن الحركة السياسية. وعدم الفصل يعني أن هناك انتفاضات يطغى على شعاراتها الجانب المطلبي وهناك احتجاجات يطغى عليها الجانب السياسي، لكن في الحالين تبدو السياسة هي العنصر الأقوى في دفع الشارع إلى الاحتجاج.

الثورات العربية تبدو سياسية بامتياز حتى لو امتزجت بشعارات مطلبية أو تعانقت في أمكنة مع هواجس الطائفة أو المذهب أو القبيلة أو الجهة أو اللون. قوة الدفع الأولى تكمن في السياسة لكون معظم الأنظمة تحولت في الكثير من المناطق إلى نوع من المعتقلات السياسية. والناس أخذت تتحرك مطالبة بالإفراج عنها بعد أن قضت أجيالها (الأجداد والآباء) سنوات وسنوات في ظل القهر والاستبداد والاتهام من دون محاكمة.

الأحفاد يتمردون انتقاماً للظلم الذي لحق بالآباء والأجداد طوال عهود أنظمة مغلقة ومقفلة وغير راغبة في الانفتاح والتغيير. وهذا النوع من الاحتجاج لا يمكن أن يحصل من دون تاريخ يتصل برغبة الأجداد والآباء في كسر الطوق وتجاوز حاجز الخوف وإحياء نبض الحياة وتنشيط حيوية المجتمع.

الانتفاضات العربية الشبابية مختلطة في دوافعها وأهدافها وهي تمتلك خصوصية تتصل بظروف المكان وواقع كل بلد. فهناك الجانب المطلبي، وهناك الاعتراض على الجمود في تطور الأنظمة، وهناك الاندفاع نحو الخروج على أحادية السلطة وعدم احترام حقوق الإنسان.

كل هذه الجوانب متوافرة في مختلف ظواهر الانتفاضات العربية. فهي ليست بعيدة عن أوروبا في القرن التاسع عشر (ثورات 1848 وكومونة باريس 1870)، وهي تخاطب انتفاضة الطلاب في فرنسا العام 1968 (إعادة إحياء الوظيفة الرقابية للشارع على السلطة)، وهي أيضاً تقارب تلك الاحتجاجات السياسية التي اندلعت في أوروبا الشرقية (الاشتراكية) في تسعينات القرن الماضي. آنذاك خرجت شعوب ألمانيا وشرق أوروبا إلى الشوارع تطالب بإسقاط الأنظمة لأسباب لها علاقة بالسياسة (الحرية الدستورية وتداول السلطة) وليس لعوامل اجتماعية (الفقر) أو اقتصادية (الجوع والبطالة).

الآن يتكرر المشهد السياسي في معظم البلدان العربية من دون أن يتوحد في قالب شامل ومشترك يخضع لمنهج تحليل وقراءة صارمة تضع الجميع في وعاء واحد ولون متطابق. هناك تشابه بعضه قريب وبعضه بعيد ويمكن إخضاعه للمقارنة والمقاربة. مثلاً الانتفاضات في مجملها مدينية أي أنها تنطلق من المدينة ويرجح أن تنتقل إلى الريف لاحقاً. وهي في هذا السياق السياسي تبدو أقرب إلى الثورات في أوروبا وأبعد عن تلك الثورات الآسيوية المسلحة التي اندلعت في الصين وفيتنام، وبدأت في الريف وزحفت إلى المدينة.

الطبيعة السياسية للاحتجاجات العربية لا يعني أن العوامل الأخرى (الحركة المطلبية) غير موجودة. هناك مطالب متنوعة وأحياناً تبدو متضاربة لكنها كلها تقريباً تقع تحت عناوين سياسية عريضة تطمح إلى تعديل هيئة الأنظمة وتراتبها كما هو حال الثورة الخضراء في إيران مثلاً. وهذا النوع من التمرد السلمي وأحياناً الدموي (ليبيا القذافي) يضفي إشارة مضافة على مشهد التغيير العام. فالمشكلة برأي القوى الشعبية - الشبابية المنتفضة تتكثف الآن في الجانب السياسي ومنه يبدأ التحول والانتقال لاحقاً باتجاه الإصلاحات الاقتصادية والجوانب المطلبية والمعيشية.

المناظر العربية عكس التيار. فالاتجاهات التقليدية للثورات الأوروبية تبدأ عادة وفي معظم الحالات بالاقتصاد وتنتقل لاحقاً إلى السياسة وإعادة تشكيل السلطة، بينما الحال الظاهر على الشاشة العربية قد بدأ بالسياسة (إعادة تشكيل السلطة) لينتقل بعدها إلى الاقتصاد. المتكون المذكور يعطي أيضاً إشارة أخرى تضفي على المشهد العربي حالات مضادة ومخالفة للكثير من الأمثلة والنماذج التي بدأ المفكرون الأوروبيون والأميركيون الأخذ بها للتشبيه والمقارنة والمقاربة بين ثورات 1848 و1870 و1968 و1989 والانتفاضات والاحتجاجات والهبات المتواصلة والمتداعية من المحيط إلى الخليج.


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف