البطانة والثورات
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عبدالله السويجي
قال العقيد معمر القذافي في خطابه الأخير إنه لا يشاهد التلفزيون، ولا يتابع المحطات الفضائية، ويكتفي بقراءة الكتب، وقالت كاتبة وإعلامية ليبية، أمس، في برنامجها الطويل على قناة الليبية، إن القذافي يكتفي بما يعرض عليه من تقارير، وطالبت بمحاسبة من يحيطون به، ويمنعون الناس من التواصل معه، علماً أن هذه القناة موالية للقذافي، ويبدو أنها خطوة نحو إعلام منفتح بعض الشيء . وفي السياق ذاته، قال الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي بعد أكثر من عقدين من تولي السلطة (الآن فهمتكم)، ووعد بالحريات الإعلامية والاجتماعية والسياسية وغيرها . والرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك قال إنه يتفهم مطالب الشعب والشباب، ووعد بسلسلة من الإصلاحات استجابة لهم، والتقارير الكثيرة تشير إلى أن مراكز قوى نافذة كانت تحيط بالرئيس مبارك، ولا تزوده بالحقائق . وفي السياق ذاته أيضاً، أعلن الرئيس السوداني أنه لن يترشح لولاية ثانية، وكذلك الأمر بالنسبة للرئيس اليمني الذي وعد بعدم الترشح وعدم التوريث .
لم يعد سراً ما يحدث في الشارع العربي، ولم تعد سراً طبيعة استجابة الرؤساء لتحركات الشارع العربي، ما يهمنا هو هذا الأمر الرئيس والمهم والخاص بطبيعة التواصل بين الحاكم والمحكوم، ودور البطانة والمحيطين بالرؤساء والزعماء الذين يعملون على إخفاء الحقائق وطمس المعلومات، ظناً منهم أنهم بذلك يحافظون على (مزاج) المسؤول، وعلى أعصابه، ولا يريدون إشغاله بقضايا (تافهة) تحدث في الشارع، كما أنهم لا يقدمون المشورة الصحيحة الصادقة، وإن كانت قاسية ومؤلمة، فهذا هو عملهم ووظيفتهم . فالذي يقدم لصاحب القرار ما يعتقد أنه يروق له ويتفق مع شخصيته وعظمته، يجب ألا يكون مساعداً بل طبالاً، والحاشية التي تمنع المعلومات عن صاحب القرار هي حاشية متآمرة وتمارس عملية (انقلاب أبيض) عليه، من خلال التعتيم والتمويه والإخفاء . وفي الحقيقة، لا يستطيع أي رئيس دولة أو زعيم وطني متابعة كل صغيرة وكبيرة بنفسه، والعصر الذي كان يقوم الخليفة بالسهر على قضايا الناس قد ولى . الآن هناك دول مترامية الأطراف، وعشرات الملايين من السكان، ومئات القضايا المحلية والإقليمية والخارجية، وإن لم يصدق المحيط والمرافق في النصيحة والمعلومة، ستبقى السجون تعج بالناس، وتنتشر المظالم، ويجوع كثيرون، وتمتلئ بطون كثيرين حد التخمة، وتمارس الأجهزة سلطتها ربما برعونة وتعسف، وسينتهز البعض موقعه لتحقيق الثراء والتحكم بالعباد .
يحدث كل هذا بسبب غياب المؤسسات الحقيقية الممثلة للشعب، ويحدث هذا بسبب حصر كل الصلاحيات بيد شخص واحد، وهذا الحصر من أخطر أنواع الحكم بالتأكيد، ولهذا، ينادي بعض المفكرين السياسيين بألا تتمتع أي جهة بسلطات كثيرة، حتى لا ينتشر الاستبداد الفردي أو المؤسساتي، ولهذا ينادي البعض بفصل السلطات، وتفعيل المؤسسات، وتطبيق التمثيل الشعبي، وتحديد مدة الولاية، إن كانت للرئيس أو رئيس الوزراء أو الوزراء أو البرلمانيين وغيرهم .
لو كانت هناك حرية تعبير حقيقية، تشكل المدى والفضاء لصوت المواطن، ولو كانت هناك شفافية في الطرح، ولو كانت هناك نقابات حقيقية ليست تابعة للدولة تمارس حقها في التعبير عن رأيها والمشاركة في اتخاذ القرارات، ولو كان هناك نظام استفتاء شعبي على القرارات والسياسات المحلية والخارجية، ولو مارس القضاء عمله باستقلالية من دون تدخل من أحد، ولو صدقت البطانة وخافت ربها في تقديم المشورة لصاحب القرار، ولو علم البعض أن (الطمع ضر ما نفع)، ولو سادت مقولة (القناعة كنز)، ولو وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ولو تم النظر إلى المرأة كما أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع، ولو تم تطبيق الحديث الشريف (الناس سواسية كأسنان المشط)، ولو تم تطبيق الحديث الشريف أيضاً الذي لا يفرق بين عربي وأعجمي، وبين الأبيض والأسود إلا بالتقوى، ولو اختفت نعرات القبيلة والاحتماء بالحسب والنسب، ولو مارس رجال الدين دورهم الحقيقي وطبقوا الحديث الشريف (إن أعظم الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر)، ولو لم يغلبوا أمور الدنيا على أمور الآخرة، ولو تم كل ذلك وغيره، لما خرج الناس إلى الشوارع، وما شعر الشباب بالغبن والظلم، ولما احتجنا إلى التدخلات الأجنبية لتعلمنا مبادئ حقوق الإنسان، وحقوق العمال، وحق التعبير عن الرأي، ولما احتجنا إلى المنظمات العالمية لترصد أخطاءنا، وتحاربنا بنفس مبادئنا التي من المفترض أننا نؤمن بها، ولما حوكمنا في محاكم عدل دولية، ولما احتجنا إلى المعونات الأجنبية في الغذاء والدواء والملبس وإدارة الحياة .
إن العدل أساس الملك، هذا ما نقرؤه على واجهات بعض المحاكم، وقصور بعض الزعماء، ولكنه السؤال الذي يطرح نفسه: هل العدل مطبق؟ علماً أن كلمة العدل تخص وتلامس كل مناحي الحياة، ابتداء من التعليم والصحة وتوفير فرص العمل والعلاقة بين الرجل والمرأة وانتهاء بممارسة الحكم، فما هي نسبة العدل المتوافرة لدينا نحن العرب بكافة أدياننا؟ بل أين هو العدل في السياسات العالمية ولاسيما السياسات الأمريكية والغربية؟ هل يسود العدل السياسات الأمريكية على سبيل المثال، هذه السياسات التي تغض طرفها عن حقوق الشعوب المظلومة، وتساند الكيانات الغاصبة والدكتاتوريات، ثم تأتي لتعطي الأوامر (ارحل الآن) أو تطالب (بنقل السلطة بشكل سلمي، الآن . .)، ثم تحرك أساطيلها المدمرة للسيطرة على آبار النفط وخيرات الشعوب، هل هذه السياسات عادلة؟ لا أظن ذلك .
التحركات الشعبية التي يشهدها الشارع العربي هي نتيجة عدم مشاركة الناس في اتخاذ القرار . وتبين في علم الاجتماع أن قيمة الكرامة وعزة النفس تتغلب على قيم كثيرة، والإنسان يعيش بكرامته حتى لو كان فقيراً، أما أن يجتمع الفقر والهزيمة وغياب العزة والتهميش لحياة الناس، ولا سيما الشباب، فذلك سيؤدي إلى ما نشاهد في الشوارع من احتجاجات تصل إلى مرحلة الخراب في كثير من الظروف .
إن الأمر الذي لم تنتبه إليه البطانة وأصحاب القرار، هو ملامح الأجيال الجديدة التي تعلم ما يحدث في الخارج، وتقرأ ثقافات العالم، وتتعامل مع وسائل وتقنيات تواصل حديثة، لا ينفع معها (المخبر) ولا أجهزة التنصت والتجسس، وتستطيع أن تجمع نفسها على الهواء مباشرة من دون أن يقوى أحد على التأثير فيها، ويبدو أن جيل الشباب انتقل من مرحلة التجمع الافتراضي، إلى مرحلة التجمع الحقيقي، وها هم جميعاً في الشوارع، يسقطون حكومات وأنظمة، ويدعمهم الغرب بكل ما أوتي من قوة بأشكالها التقنية والسياسية والاقتصادية وغيرها، لغرض في نفس يعقوب . والسؤال الذي يطرح نفسه: هل نعي نحن العرب الدرس ونتعلم للمستقبل؟