لبنان من أزمة الحكومة إلى أزمة النظام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
سليمان تقي الدين
عادت الأزمة اللبنانية إلى نقطة الصفر مع صعوبة تشكيل حكومة في ظل الانقسام الحاد بين طرفين شعارهما إسقاط السلاح وإسقاط المحكمة . ففي هذين المطلبين نقل للصراع إلى بعديه الإقليمي والدولي، وتعليق معالجة المشكلات الداخلية بانتظار حلول من خارج ليست متوفرة اليوم في ظل الوضع العربي المتغيّر . بعد تعطيل التسوية السورية السعودية من أطراف عدة لا سيّما الطرف الدولي الذي يحرص على استثمار المحكمة، ليس هناك من حضانة عربية لأي حل لبناني ولو بصورة مؤقتة . أما الأطراف اللبنانيون فهم لا يبدون مسؤولية جدية لا في الحل الجذري ولا حتى في تمرير تشكيل حكومة لإدارة شؤون الناس وتبريد الاحتقان السياسي المذهبي . على العكس من ذلك يعتبر الأطراف جميعهم أن هذه هي فرصتهم لتسجيل إنجازات سياسية بالنقاط، إما إثبات قدرتهم على التعطيل وإما إثبات قدرتهم على نيل حصة مهمة من القرار السياسي . في مثل هذا المأزق يتعذر تشكيل حكومة سياسية ممثلة للأطراف، وكان من الأفضل على رئيس الحكومة المكلف لو أنه سلك منذ اللحظة الأولى الطريق الذي تحدث عنه هو اصلاً وذهب إلى تأليف حكومة محايدة لتمرير الأزمة الراهنة .
يقال هنا إن حكومة محايدة عاجزة عن التعامل مع قرار المحكمة الدولية الذي صار واقعاً وله تداعيات ويحتاج إلى حكومة تحدد موقف لبنان الرسمي من مطالب المحكمة . لكن الحقيقة أن أية حكومة لبنانية ستواجه المصاعب نفسها في الاستجابة لمطالب المحكمة الدولية أو عدم الاستجابة لها . ولقد ظهر هذا الأسبوع في الأفق أن المحكمة قد تقدمت بمطالب جديدة لمسح شامل للمعلومات في الاتصالات وعبر عدد من الوزارات، الأمر الذي أثار عاصفة جديدة من القلق من دور هذه المحكمة، وكذلك ما حصل من قرارات تتعلق بالنظام المصرفي اللبناني وما يوحي به بعض الأطراف الدوليين بإمكان توقيع عقوبات اقتصادية على لبنان، أو التأثير في نظامه المصرفي وحرياته، الأمر الذي يجعل الحكومة، أية حكومة، في موقع حرج . ويتأكد اليوم أكثر فأكثر أن المحكمة الدولية لا تسبح في فراغ ولا تعمل بصفتها فقط أداة لكشف الحقيقة وتوقيع العدالة، بل هي جزء من منظومة التدخل السياسي الدولي في لبنان . لقد صار من المحتّم على الأطراف اللبنانيين أن يعودوا إلى طاولة المفاوضات لإيجاد مخارج تتعلق بالتعامل مع هذه القضايا، بينما إذا استمروا في التصعيد السياسي وطلب الأهداف القصوى لهم فهم ذاهبون إلى مواجهات سياسية قد تطيح الاستقرار الأمني في البلاد . ولعل بعض الأطراف يرغبون في ذلك تحت وهم أن تكبير الأزمة يساعد على استدراج الحلول لها، أو أن تصعيد المطالب يجعل الفريق الآخر يتراجع من أجل انتاج تسوية .
صحيح أن التوازن الداخلي الميداني لم يعد يعطي فريق المعارضة الجديدة قوة مادية على الأرض، لكن الذهاب في الشعارات السياسية والتعبئة إلى حدود تعميق الانقسام المذهبي يرى فيه جاهزاً معطلاً لإمكان هيمنة الفريق الآخر . وفي مكان ما يستقوي هذا الفريق ldquo;بالمجتمع الدوليrdquo; ولو كان ذلك لا يعني أكثر من قرارات تربك الفريق الآخر وتضعه في مواجهة مصالح أكثرية اللبنانيين وعلاقاتهم بالعالم الخارجي .
لقد أظهرت القوى السياسية جميعها عدم مسؤولية وطنية وهي تدفع الأمور إلى المربع الصعب، مربع وقف الحوار والبحث عن حلول، خاصة أن استخدام القوة أو التهديد بها صار جزءاً من اللعبة السياسية في كل استحقاق أو منعطف سياسي . ولعل تصرف بعض الأطراف في مطالبهم من الحكومة ومحاولتهم ربط تأليف الحكومة بنفوذهم المستقبلي، خاصة مع انتخابات 2013 يدل على التعامل بخفّة مع القضايا الكبرى . وإذا دل ذلك على شيء فهو يدل على أزمة النظام الطائفي الذي يجعل الفرقاء يتصرفون من وحي مصالحهم الطائفية وحدها غير مهتمين لتداعيات ذلك على الواقع الوطني . قد يجد هؤلاء لأنفسهم مبررات كما يقولون إن النظام يفرض هذه المحاصصة لكنهم يشوهون النظام الدستوري ويفرضون اعرافاً لم تعد قابلة للتحقيق في كل مرّة يتغيّر فيها التوازن السياسي . لبنان لا يحكم الآن بواسطة الدستور والقواعد القانونية حتى مع الأعراف الطائفية، بل هو يحكم بواسطة كتل الضغط الطائفية التي تحاول كل مرة إيجاد تفسير جديد لطبيعة هذا النظام وآلياته .
ولأن الأمور بلغت مبلغاً خطيراً وأظهرت عجز هذه الطبقة السياسية وفاقمت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وعزّزت الاقتناع لدى جمهور واسع أن اللعبة السياسية تدور على مصالح الزعماء والأحزاب ولا شأن للجمهور بها، خرجت مجموعات شبابية متنوعة من كل البيئات اللبنانية تطالب بإسقاط النظام الطائفي معلنة رفضها لهذه الإدارة المدمّرة لحياة اللبنانيين . فقد صارت الأزمة الاجتماعية تعكس الفجوة العميقة بين المستوى السياسي الحاكم وهموم الناس . بل هناك لا مبالاة لدى الطبقة السياسية بمعاناة الناس اليومية والفوضى الضاربة في كل إدارات البلد ومرافقه وخدماته . وإذا كان التغيير في لبنان مشروعاً صعباً ومعقداً، لكن المناخ العربي الذي أعطى الشباب واجهة التحرك يشجع على أن يطلب اللبنانيون التغيير والإصلاح، أقله من أجل تطبيق بعض البنود الدستورية الأساسية التي جرى تجويفها والتحايل عليها وتعطليها .