يمن موحد بلا صالح ولا «قات»
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
نورالدين قلالة
قبل حوالي خمس سنوات كان اليمنيون يصرخون بأعلى الصوت في الشارع أن هناك اثنين لا يمكن التنازل عنهما في اليمن مهما حصل: صالح و "القات".
فعلي عبدالله صالح هو رمز من رموز هذا البلد السعيد، بأهله وتاريخه وموروثه الشعبي العريق، و "القات" جزء من ثقافة هذا الشعب الصبور، بمشاكله وأزماته وفقره المدقع. والحقيقة أن تعلق سكان اليمن بالقات وبصالح له مدلول نفسي كبير، يرقى إلى درجة الإدمان، فكلاهما له سحره وكلاهما له مفعوله في التنويم والتخدير. ولأن التخلي عن هذا أو ذاك كان أمرا مستحيلا فقد فاز علي صالح عام 2006 بولاية رئاسية أخرى من سبع سنوات، بعد أن أعلن على الملأ نيته في عدم الترشح، لكنه سرعان ما عدل عن قراره "الثوري" في ظرف ثلاثة أيام فقط، على قاعدة معظم الحكام العرب: "استجابة لرغبة الجماهير" التي طبعاً أُخرجت إلى الشارع في "مسيرات عفوية من تنظيم السلطة" وغنى الجميع أغنية المطربة المغربية الشهيرة سميرة سعيد "مش حتنازل عنك أبداً مهما يكون".
اليوم يعيش اليمن حالة مختلفة تماما، لكنها أكثر خطورة، فقد تعالت أصوات عديدة مختلفة سياسيا ومتعارضة أيديولوجيا وطائفيا وقبليا، معلنة صراحة رغبتها في التخلي عن صالح والقات في آن واحد. قد يكون لانتفاضة تونس ومصر وليبيا مفعولها السياسي الكبير على الشعب اليمني، لكن الأكيد هذه المرة أن صالح لا يريد التخلي عن السلطة استجابة لرغبة الجماهير، وإنما رفضا لإرادتهم في التغيير، فقد انقلب السحر على الساحر، وهجر اليمنيون مجالس القات، وقاطعوا سياسة تخزينه و "لوكه" في كل مقام ومقال، فلم يجد صالح أولئك المخدرين الغائبين عن الوعي حتى ينظموا له مسيرات عفوية تطالب ببقائه، كما يبدو أن سميرة سعيد اعتزلت الغناء، وكل يغني على ليلاه في الوطن العربي هذه الأيام.
آخر شطحات الديك المذبوح في اليمن، إطلاقه مبادرة جديدة من مبادراته العظيمة، واقتراحه التخلي عن صلاحيات لصالح نظام برلماني دون مغادرته السلطة قبل نهاية ولايته في 2013، معتبراً العرض الجديد "براءة ذمة" إلى الشعب اليمين، لكن اليمنيين المطالبين برحيله سارعوا إلى رفض المبادرة "المتأخرة" والتي تمثل "إعلان وفاة" للنظام السياسي اليمني في نظرهم.
صالح أراد أن يقول للشعب اليمني إنه لن يتحمل النتائج الوخيمة لرفض المعارضة لمبادرته "الثورية"، وهو تهديد صريح بمرحلة جديدة من التصعيد الأمني والعسكري على غرار ما يجري في ليبيا على يد القذافي. لكن صالح من السهل جدا أن يتراجع عن براءاته المخترعة، فقد برأ ذمته قبل أيام من تصريحات نارية كان قد أطلقها على الملأ، بأن ما يحدث الآن من ثورات في الوطن العربي يدار في غرفة عمليات في إسرائيل بأيادي الموساد وبإشراف رسمي من واشنطن، ولأن واشنطن لم تسكت على الاتهام فقد سارع هو لنفي كل ما قاله في ظرف أقل من 24 ساعة. وكأن تصريحاته تلك كانت تحت تأثير القات الذي سبق أن أعلن إقلاعه عن تخزينه رفقة مسؤولين يمنيين آخرين بحكم أنه آفة.
كيف يمكن الوثوق بحاكم يتراجع عن أقواله في وقت قياسي كهذا؟ كيف يمكن لليمنيين أن يثقوا في مبادراته المتتالية وهو يدرك أن لا أحد يصدقه؟
أوهام الرئيس صالح يبدو أنها لن تنقذه من الزلزال القادم، فقد اتحدت المعارضة في قلب صنعاء وفصائل الحوثيين ونظام الحراك الجنوبي وحتى القاعدة على ضرورة رحيل هذا الرجل عن حكم اليمن، حتى وإن نصت مبادرته الأخيرة عن "تطوير نظام حكم محلي كامل الصلاحيات على أساس لا مركزية مالية وإدارية" وعلى "إنشاء الأقاليم اليمنية على ضوء المعايير الجغرافية الاقتصادية"، والحقيقة أن مسألة إنشاء أقاليم في البلاد تمثل مقترحا جديدا خصوصا أن البلاد تشهد حركة مطالب بالعودة إلى دولة اليمن الجنوبي التي كانت مستقلة حتى عام 1990.
ومثلما أوقف الحوثيون قتالهم ضد حكومة صنعاء لينضموا للاحتجاجات المطالبة بإسقاط النظام، تخلى قادة الحراك الجنوبي عن مسألة الانفصال إلى حين تنحية صالح، وقرروا الانضمام لشباب الثورة في الشمال، وهو تحرك تكتيكي ذكي إلى حد بعيد يرتب الأولويات السياسية لمطالبهم التي لن تلقى صدى في هذه الفترة بالذات، وإن كنت أعتقد أن لغة الحراك الجنوبي وحديث الانفصال في اليمن بعد علي صالح، سيشوبه تغير كبير على مستوى العمق، قد يقود إلى تبني خطاب سياسي جديد قريب من الوحدة بعيد عن التجزئة. وهذا يعني أن تهديدات الرئيس اليمني باحتمالات أفغنة وصوملة ولبننة اليمن بعد تنحيه السلطة، سيكون لها مفعول عكسي تماما لما يروج له النظام الحالي. ذلك أن جانبا كبيرا من دوافع الانتفاضات الشعبية في اليمن شماله أو جنوبه على السواء، مبني على أسس اقتصادية وأخرى لها علاقة بالقوانين الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة فضلاً عن هامش المشاركة السياسية في صناعة القرار في البلاد.
وعلى هذا الأساس فإن التغيير في اليمن ورحيل النظام أصبح مسألة وقت، والمواطنة المتساوية هي التي ستحافظ على وحدة اليمن، وقد يكون المطلوب في الفترة الانتقالية المقبلة رئيسا جنوبيا يلتفت لاحتياجات المنطقة والظلم الذي تعرضت له لسنوات عديدة. ومن يدري.. بعد تنظيم انتخابات رئاسية حرة ونزيهة أن يفاجأ العالم العربي برئيس يمني جديد خلفا لصالح.. ربما علي سالم البيض أو غيره، المهم يأتي من الجنوب من بين صناديق الاقتراع وليس فوق ظهر دبابة عسكرية.. عندئذ لن يكون لمطالب الانفصال أي مبرر. ولا أعتقد أن أحدا يشك اليوم أن الديمقراطيات العربية الهزيلة القائمة على أسس هشة التي تحميها الديكتاتورية والنزعة إلى التفرد بالسلطة والثروة، تكون دائما هي بذور الأسباب في عدم الوحدة، بل وتكون أيضا أحد الأسباب في الاتجاه نحو التجزئة والتفتت والانفصال.
يقول المثل اليمني الشهير "لا بد من صنعا وإن طال السفر"، ولم يقل "لا بد من صالح وإن طال السفر".. لكن اليمنيين اليوم يرددون جميعا من دون استثناء "لا بد من التغيير وإن طالت الثورة".. فهل يدرك الرئيس علي صالح أن اليمنيين قرروا من اليوم فصاعدا اختيار رموز هذا البلد السعيد بأهله وتاريخه، الحزين بفقره و "قاته"، وهم اليوم لا يفرقون بين التمادي في الحكم والتمادي في الظلم. وكان حريا بالرجل أن يخرج من الباب الواسع للسلطة، وهو يحمل إرثه على ظهره، بحلوه ومره.
فمثلما فعل القات فعلته باليمنيين، فقد تمكن علي صالح من زرع مخدره في قلوبهم لعقود من الزمن، مع تفاوت بسيط في الجرعات. اليوم زال مفعول القات وذهبت "سكرة" نظام صالح الوهمية، وقرر سكان اليمن ألا يهربوا من مشاكلهم وفقرهم باللجوء إلى مضغ تلك النبتة القات، وتعويضها بنبتة سياسية جديدة أسمها "ارحل" كتبوها على جباههم وصدورهم وحملوها في قلوبهم وعقولهم.
أصدقكم القول.. لست متأكدا مائة بالمائة، من تخلي اليمنيين عن القات، لكنني "أبصم بالعشرة" على أنهم لن يبرحوا الشارع حتى يسقط النظام ويرحل صالح.. والحقيقة أن علاقة اليمنيين مع القات حكاية طويلة وغريبة وهي ليست علاقة "تخديرية" فقط.. لأن القات أنواع: وحسب دراسات عديدة وعمليات استطلاع لآراء مدمنيه، بعضه يجعلهم يفركون لحاهم أو يقضمون أظافرهم أو ينزوون بأنفسهم في أماكن مظلمة، وبعضه يولد لديهم طاقة للعمل في الليل وحالة من الانفتاح على الآخرين ويخلق فيهم نشوة للثرثرة والتواصل وإثارة قضايا قديمة. وآخرون يدفعهم إلى الهجرة ومغادرة أمكانهم والتنقل من مكان إلى آخر. لكن أحد أنواع القات يثير حالة من الانسجام والعقلانية والعاطفة الجياشة والإحساس المرهف وهو قطعاً النوع الذي يتعاطاه المتظاهرون حالياً في اليمن، ومنه أيضا ما يولد في متعاطيه حالة من الخوف والجبن والشك، وهو قطعاً النوع التي يفضل نظام صالح توزيعه على الجميع.