قراءة في الثورات العربية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عفيف رزق
في قراءة متأنية لما يحدث على الساحات العربية، من ثورات وانتفاضات، شعبية وجماهيرية، تُظهر ان عالمنا العربي يعيش مفصلاً تاريخياً مهماً؛ ومن نافل القول ان قبل ما حدث ويحدث، هو غير ما بعده بالنسبة للوطن وللمواطن معاً. إن اهم ما تطالعنا به هذه القراءة، اولاً: الاستقلالية التي تتمتع بها هذه الحركات، فلا خارج يصدر أوامر أو تعليمات، ولا داخل يتأثر بأقاويل أو شائعات، وهذه ميزة فريدة لم يشهدها العالم العربي في تاريخه المعاصر؛ ثانياً: إن مصدرها واحد هو الشعب بجميع فئاته العمرية وان كان عنصر الشباب هو الطاغي، وبجميع قطاعاته وان كان عنصر النخب السياسية والثقافية هو الاقل تأثيراً وحراكاً، وهذا هو مصدر قوة هذه الثورات التي اعترف بها الصديق والعدو معاً؛ ثالثاً: ان هذه الحركات عابرة للطوائف الدينية والعرقية- الاثنية، والاقليات المتنوعة جنباً الى جنب مع الاكثريات المتعددة، ولا شعارات لأحزاب من أي نوع ولا أعلام لتنظيمات سوى العلم الوطني يرفرف فوق الجميع.. وأخيراً، هي ثورات بكل ما في الكلمة من معنى، وليست انقلابات مثل تلك التي أُبتلي بها الوطن والمواطن وذاق منها الامرين طيلة العقود الماضية. ان الاستنتاج المنطقي، الذي نخلص اليه هو ان المستفيدين من الوضع الذي كان سائدا هم حفنة صغيرة من المواطنين من اهم اولوياتها: التمسك بالسلطة والنفوذ ولو على جثث الثوار والابرياء، واحتكار الثروة وتكديسها في خزائن القصور او إيداعها في المصارف او الشركات الاجنبية حتى ولو قضى المواطن جوعاً؛ اما الداعون الى تغيير هذا الواقع فهم الاكثرية الساحقة من الشعب من همومها وآمالها المشتركة: محاربة الفساد والقمع والاضطهاد، ومعالجة مشاكل البطالة والفقر، ونبذ التهميش واللامبالاة...
هذه هي القراءة الوصفية او الشكلية للثورات العربية المنتشرة في اقطار عربية كثيرة، اما الجانب الآخر لهذه القراءة فهو تحليل يتناول النتائج التي اسفرت عنها هذه الثورات حتى الآن.
يتفق معظم علماء السياسة على ان الدولة الحديثة تقوم على مبدأ الحداثة الذي تأخذ به الانظمة الاوروبية، في المرحلة الراهنة. والخطوط العريضة لهذا المبدأ: سيادة الديمقراطية، وتداول السلطة، واحترام حقوق الانسان والحريات العامة كحرية المعتقد والتعبير، والشفافية في العمل والتعامل اي المساءلة والمحاسبة. اما آلية عمل هذا المبدأ فترتكز على ثلاث سلطات في هذه الدولة، مستقلة في عملها عن عمل الاخرى، هي: السلطة التنفيذية وتتولاها الحكومة وأجهزتها الادارية والعسكرية وغيرهما، وسلطة تشريعية تتشكل من مجالس نيابية او مجالس شورى منتخبة من الشعب واولى مهامها سن القوانين والتشريعات التي تطال معظم اوجه النشاط العام، ومراقبة السلطة التنفيذية، واخيرا السلطة القضائية التي تتولى مسؤولية ضمان العدالة بين المواطنين على مختلف مستوياتهم. يرعى هذا التكوين دستور يُحدد طبيعة النظام السياسي القائم وحقوق المواطنين وواجباتهم.
بعد هذا العرض لمفهوم الدولة الحديثة، الذي إتفق عليه علماء السياسة في العصر الحاضر ووجدوا فيه فائدة لحفظ حقوق المواطن وتقدم الدولة لحمايتها من الاضطراب والفوضي، ماذا نجد في الدول العربية التي شهدت ثورات وتلك التي تشهد انتفاضات احتجاجية؟، نجد ان اسس الدولة الحديثة غير موجودة بالكامل. فالنظام السياسي فيها يعتمد بالدرجة الاولى على الرئيس الذي يجمع في يده كل السلطات، والمجالس البرلمانية وغيرها، وعلى الرغم من انها منتخبة من الشعب فإنها أُنتخبت على اسس قوانين انتخابية متحيزة لصالح السلطة الحاكمة وشاب عمليات الانتحاب كثير من عمليات التزوير والغش والتلاعب، وهذا ما اعترف به الرؤساء الذين اطاحتهم الثورات؛ ويعتمد النظام القائم على حزب واحد هو "الحزب الحاكم" فوق المساءلة والمحاسبة، تتفشى في مكوناته, من اعلى الهرم حتى اسفله, كل انواع الفساد والمحسوبيات، وهذا ما كشفت عنه ارقام المبالغ الطائلة المكدسة، إما في خزائن القصور وإما المودعة في المصارف والشركات الاجنبية بأسماء الرئيس وعائلته وفريقه الحاكم. لقد برز في السنوات الاخيرة، في بعض الانظمة العربية الحاكمة، مفهوم جديد في المصطلح السياسي، هو "التوريث"، أي إنتقال الحكم من الأب الى الإبن، مع ان هذا النظام جمهوري كما يدعي القيمون عليه، ومن المعلوم ان هذا المفهوم ينقض، تماما"، اسس الدولة الحديثة، كما انه مناف لمبدأ تداول السلطة وحتى الدستور الحافظ الامين لعلاقة المواطن بدولته، لم تحترم مواده واصبح عرضة للتعديل حسب مشيئة الرئيس. ويمكننا، قياسا على هذا الاستعراض، تبيان مثالب النظام السياسي الذي كان سائدا في الدول التي حصلت فيها ثورات وتلك التي تنتظر.
في الطرف المقابل، نجد المسؤولين عن ثورتي تونس ومصر. بعد نجاحهما في تغيير النظام، قد اعلنوا عن التزامهم الجاد والحقيقي بأسس الدولة الحديثة كما باشروا في تطبيق ذلك من قيام دستور جديد، وتداول السلطة حسب معايير ثابتة لا يمكن تجاوزها، واجراء انتخابات متعددة لكل المؤسسات الدستورية، نزيهة وشفافة، وتعددية حزبية، واحترام حقوق المواطن ضمن حرية مطلقة... والجديد في تصرف هؤلاء المسؤولين سهرهم الدائم على اكمال هذه المسيرة برغم جميع العقبات التي تعترضهم مما يشير بوضوح الى ان العرب بدأوا دخول عصر الحداثة من الباب العريض.