كي تعود مصر جدار استناد لفلسطين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
صقر ابو فخر
ـ I ـ
ثورة مصر، هي في مضمونها وفي حسابها الختامي، انتقام تاريخي من أنور السادات الذي كان أول مَن كرّس عصر التصالح مع اسرائيل، ودشّن، في موازاة ذلك، حقبة القطيعة مع القضية الفلسطـينية. واليوم، يقوم الشعب المصري بدفن هذه الحقبة، وإهالة الركام عليها. لقد انتهت حقبة كامب دايفيد التي عاشت اثنتين وثلاثين سنـة. وحتى لو بقيت نصوص معاهدة السـلام المصرية ـ الاسرائيلية سارية، فإنها ستتحول، بالتدريج، على ما أحسب، إلى سلام ميت.
كان لنظام حسني مبارك، في ميدان العلاقة بإسرائيل، وظيفة محددة هي حماية أمن اسرائيل من الجنوب بذريعة حماية أمن مصر من الشمال، وفوق ذلك كان له نصيب في التعاون الاقليمي مع الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل لمحاربة القوى السياسية المناوئة للولايات المتحدة في المنطقة العربية. لنتذكر دور حسني مبارك في مساعدة أميركا على تهيئة الوضع العربي لخدمتها إبان حربها على العراق في سنة 1990، وكيف استعجل مؤتمر القمة العربية الطارئة آنذاك لاتخاذ موقف ضد العراق في سبيل تسهيل الغزو الأميركي، وكيف أساء أيضاً إلى موقف منظمة التحرير الفلسطينية الرافض لاحتلال الكويت، والرافض في الوقت نفسه للحرب الأميركية على العراق، فصور ذلك كأنه تأييد فلسطيني لاحتلال الإمارة النفطية، الأمر الذي أدى إلى محاصرة المنظمة وقطع المعونات عنها، وطرد آلاف الفلسطينيين من الكويت ودول الخليج العربي الأخرى وتشويه موقفها الملتبس.
ـ II ـ
في عهد أنور السادات، ثم في عهد حسني مبارك، تحولت مصر من حائط دعم أو جدار استناد للقضية الفلسطينية، كما كانت عليه الحال في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، إلى وسيط مع إسرائيل أحياناً، وإلى أداة ضغط لاستدراج منظمة التحرير الفلسطينية إلى تقديم تنازلات لإسرائيل في أحيان أخرى. وفي عهد حسني مبارك بالتحديد صارت قضية فلسطين مجرد ملف بين يدي اللواء عمر سليمان، أي انها باتت "قضية أمن" لا قضية مركزية للعرب، أو قضية تحرر وطني. واتفاقية السلام المصرية ـ الإسرائيلية التي وقعها أنور السادات في سنة 1979 حرمت مصر من معظم مظاهر السيادة على سيناء، بعد ان أخرجتها من منظومة الصراع العربي ـ الاسرائيلي، وهذا ثمن باهظ جداً، فقد فرضت قيوداً على انتشار الجيش المصري في أرضه، وسلّمت هذه المهمة إلى قوات المراقبة الدولية، وتركت للمصريين الشؤون اليومية التي تتولاها الشرطة، ثم أرغمت مصر على بيع إسرائيل الغاز بأسعار تافهة، في الوقت الذي تحتاج مصر فيه إلى كل قرش لتخطي أوضاعها الاقتصادية المهينة وضائقتها المالية المتمادية. وجل ما نالته مصر لقاء ذلك هو المعونة المالية الأميركية لا غير.
مهما يكن الأمر فإن إسرائيل تقف اليوم مشوشة أمام الثورة المصرية، وهي ترى فيها، على المدى المتوسط، تهديداً استراتيجياً لها، وستسعى، إن لم تستطع المحافظة على معاهدة السلام ببنودها كلها، إلى تقليص الأضرار الاستراتيجية الناجمة عن هذا التحول. وما تريده إسرائيل، في نهاية المطاف، هو ضمان أمنها في الجنوب، واستمرار تدفق الغاز المصري على محطاتها، وتفعيل التعاون الأمني، ولا سيما في الشأن الفلسطيني، ومتابعة التعاون الاقليمي، وخصوصاً في الشأن العراقي واللبناني.
ـ III ـ
هل تعيد مصر، في خضم هذه التحولات الصاخبة، النظر في بنود هذه الاتفاقية صوناً للسيادة الوطنية المهدورة وللكرامة المصرية المثلومة؟ ربما، لكن ليس سريعاً، بل بطريقة متدرجة. وكان من اللافت أن السفارة الإسرائيلية في القاهرة لم تصب بأي خدش في أثناء الثورة، ولم يُكسر فيها أي زجاج في أقل تقدير. ثم إن البيان الثاني للمجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية أعلن التزامه الاتفاقات الدولية والاقليمية، وكان يقصد، بالتحديد، معاهدة السلام مع اسرائيل. ولعله اراد من إعلانه ذاك تطمين الولايات المتحدة وإسرائيل في هذه المرحلة، ثم النظر، لاحقاً، في تطورات الأحوال كي يُبنى على الشيء مقتضاه. ومن المتوقع، بقراءة أولى، على المدى المتوسط، ان تتخذ مصر خطوات من شأنها أن تؤدي إلى التالي:
1ـ تمويت معاهدة السلام المصرية ـ الاسرائيلية، وتحويل نصوصها في أحسن الأحوال إلى سلام ميت، وفي أدنى الأحوال إلى سلام بارد.
2ـ وقف بيع إسرائيل الغاز المصري إلا بسعر السوق، وربما مع بعض الحسومات التفضيلية المحدودة.
3ـ إسقاط ورقة حصار قطاع غزة والشروع في إمداد السكان بالكهرباء والوقود والمواد التموينية.
4ـ فتح المعابر بين مصر وقطاع غزة بصورة دائمة، وجعل الدخول إلى غزة والخروج منها حراً بحسب الأنظمة السارية أو المعدّلة.
ـ IV ـ
إن أكثر ما تخشاه إسرائيل من الثورة المصرية وتفاعلاتها هو أن تتحول خسارتها الأولية رصيداً في جعبة منظمة التحرير الفلسطينية، أي ان تعود القضية الفلسطينية، في العهد الجديد، لتصبح شأناً مصرياً، لا ملفاً أمنياً يدور في نطاق معبر رفح. ولا ريب في أن الثورة المصرية ستكون لها نتائج إيجابية على القضية الفلسطينية. غير ان ذلك لن ينعكس بالضرورة الآن لمصلحة السلطة الفلسطينية مباشرة (أو حتى لمصلحة حماس). لكن التغيير في موازين القوى الذي لن يظهر قريباً في أي حال، يدعونا إلى إعادة النظر في طريقة التفاوض مع إسرائيل، وفي طرائق جديدة للمقاومة بما في ذلك خيار المقاومة المدنية الشاملة. ولعلها فرصة سانحة اليوم لإعادة حركة حماس نفسها النظر في الوقائع المتبدلة، فإما أن تبقى على اعتقادها، ولو واهمة أن ما جرى يضيف أوراقاً إليها فتزداد عناداً وتحكماً بإرادة المجتمع الغربي الذي يرفض إرغامه على اتباع أي طريقة في العيش، أو أن تستجيب لهذه المتغيرات وتتقدم نحو إنهاء الانقسام الاقليمي والسياسي، وتلغي نتائج ما فعلته في 14/6/2007 لقاء ان يكون لها سهم كبير في القرار السياسي الفلسطيني، ولا سيما في قرار التفاوض مع إسرائيل أو في تحديد الهدف من التفاوض.
ستكون مصر منشغلة، في المرحلة المقبلة، بتنظيم الانتقال المتدرج نحو نظام سياسي جديد، وليس من المتوقع ان يكون لمصر، في هذه المرحلة الانتقالية، شأن مهم في القضايا العربية المحتدمة، وبالتحديد في القضية الفلسطينية. والمفاوض الفلسطيني ربما فقد بسقوط حسني مبارك سنداً تقليدياً، مع ان المفاوضات لم تؤدِ إلى أي نتيجة، وليس هناك اليوم مَن يفاوض أو يعارك. غير أن ذلك لن يطول كثيراً حتى تعود مصر إلى موقعها المركزي العربي. لذلك، ثمة فرصة لإعادة التأمل في مصير التسوية المجهضة، وفي المفاوضات الخائبة، وفي أحوال الشعب الفلسطيني نفسه، ولا سيما أن المنطقة العربية برمتها، من المغرب العربي إلى المشرق العربي، تتحرك فيها خمائر التغيير المختلفة، بما فيها الاتجاهات السلبية بالطبع كالاتجاهات الطائفية والانفصالية. وهي مرشحة لتغيرات مؤكدة بهذا المقدار او ذلك مثل ليبيا واليمن والبحرين بالدرجة الأولى، والجزائر والسودان بالدرجة الثانية. والوضع الفلسطيني ليس بمنأى عن التأثر بهذه المتغيرات على الاطلاق.
ـ V ـ
لقد انتهت "ورقة المصالحة المصرية" بذهاب نظام حسني مبارك. فهل يتنبه الجميع مجدداً إلى صوغ "ورقة المصالحة الفلسطينية" للخروج من هذه الأحوال العـقيمة؟ وإذا كان من الضروري إعادة قــراءة الأحوال الفلســطينية الراكدة في ضوء ما يجري اليوم في العالم العربي، وفي ضوء استعصاء، بل فشل المفاوضات مع إسرائيل، فإن الحدث المصري الذي تجلى في ميدان التحرير في القاهرة قدم إلينا طرازاً نادراً من التآلف الوطني، ومثالا رفيعاً وراقياً لمعنى إلغاء العصبيات الدينية والجهوية. أما الفلسطينيون الذين كانوا رواداً في الاندماج الوطني، والذين طالما استلهمت منهم شعوب عدة في العالم طرائق منيرة في ثوراتها، مدعوون إلى استلهام بعض مبادئ ثورة مصر، أي رمي عصبياتهم الدينية والفصائلية والحزبية في ميادين فلسطين ومكباتها، وصوغ خيارات سياسية جديدة في سبيل التصدي للاحتلال وطرده في نهاية المطاف، وإنهاء "الانقسام" المقيت الذي صنعوه بأيديهم.