جريدة الجرائد

ثورة يناير .. وعروبة مصر

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

مصطفى الفقي

رصد كل خبراء العمل العربي المشترك تراجعاً واضحاً في الدور الإقليمي لمصر عبر السنوات الماضية بل كنا نشعر، كمصريين، أن الدور القومي للقاهرة جرى تقزيمه بشكلٍ واضح وأن اشتباك السياسة المصرية الخارجية مع القضايا الإقليمية والقومية محدود للغاية، إذ تصور النظام السابق أن الانكفاء على الداخل وإقامة أسوار العزلة بين مصر وشقيقاتها العربيات أمر يمكن أن يستمر، حتى غذت بعض الأفكار المتطرفة نزعة شعوبية فرعونية تختزل بلا وعي دور مصر العربي في حرب اليمن أثناء الحقبة الناصرية وانقسام المنطقة بين ما كان يسمى قوى تقدمية وقوى أخرى رجعية، وحاول البعض أن يغرس في العقل المصري أن نكسة 1967 كانت نتيجة طبيعية لامتداد الدور القومي لمصر قرب نهاية عصر عبد الناصر مثلما كانت اتفاقية لندن 1840 هي نهاية أحلام إمبراطورية محمد علي. ولقد نجح اليمين المصري والرأسمالية الجديدة وطبقة رجال الأعمال المسيسة في توجيه الرأي العام بصورة تخالف الحقيقة وتتبنى أطروحة ضيقة النظرة محدودة الرؤية فقيرة الخيال، ولقد أسهمت فيها تداعيات سياسة كمب ديفيد، فضلاً عن محاولة الرئيس مبارك، خصوصاً في السنوات العشر الأخيرة، الابتعاد عن المضمون القومي للسياسة العربية والإبقاء فقط على علاقات ثنائية تقليدية مع حكام عددٍ من الدول الخليجية، ولا بد أن أعترف هنا أن الأشقاء العرب كانوا ينظرون إلى مصر نظرة إشفاق ويتساءلون ماذا يجري هناك على ضفاف النيل؟ ولقد كنت أحضر مؤتمراً في البرلمان الدولي في جنيف، صيف 2010، وفوجئت باثنين من الساسة العرب المرموقين يطلبان الحديث معي على انفراد ويقولان إنهما يشعران بالقلق الشديد على مستقبل مصر، وبالتالي على مستقبل الأمة العربية كلها من جراء المواقف الغائبة والمبادرات المنعدمة، حتى ظن الكثيرون أن الشعب المصري قد كفر بعروبته ثم جاءه من يقول له "إن عروبة مصر رداءٌ نرتديه حين نريد ونخلعه متى نشاء!" وواقع الأمر أن ذلك فهم مغلوط للدور المصري عربياً وهو منطق انتهازي في التفكير لا يرضاه المصريون ولا يقبله العرب لهم، فالعروبة بالنسبة إلى مصر، كما قال عبد الناصر، هي "قدرٌ ومصيرٌ وحياة"، والآن دعنا نتأمل النقاط التالية:

أولاً: إن عروبة مصر الثقافية ارتبطت بدخول الإسلام الحنيف بل وتحديداً ببدايات العصر الفاطمي، إذ أقبل المصريون على الإسلام بعد قرنين كاملين من الفتح العربي حتى قبلت الكنيسة القبطية المصرية إقامة الصلوات باللغة العربية، فكان ذلك إيذاناً كاملاً بتعريب مصر ودخولها في دائرة الحضارة العربية الإسلامية، ولا بد أن أعترف هنا أن بعض المؤرخين، بل وخبراء التاريخ السياسي يزعمون، لأهواء ومشارب لا نخوض فيها، أن الإسلام ظل في مصر ديناً وقومية بينما بقيت العروبة مظلةً ثقافية لا يرى فيها المصري عنصر ارتباطٍ مع العربي الآخر.

ثانياً: لنعترف بأن الفضل يرجع إلى سنوات المد القومي التي قادها مصريٌ آمن بالعروبة السياسية للكنانة ودخل بها في أتون الصراع القومي الدائر في خمسينات وستينات القرن الماضي، ولا شك في أن وجود إسرائيل لعب دوراً أساسياً في تغذية المفهوم القومي لدى عبد الناصر ومؤيديه، ويكفي أن نتذكر هنا أن ثوار ميدان التحرير رفعوا صوره إيذاناً بعودة مصر إلى حظيرة العروبة وإيماناً منهم بالخطر الدائم للدولة العبرية على حدودهم إلى جانب إحساسهم بأن عصر عبد الناصر اقترن بمنطوق العدالة الاجتماعية التي غابت بعد ذلك في عصر مبارك وحل بديلاً لها الفساد المالي والإداري، فضلاً عن التراجع السياسي والثقافي.

ثالثاً: إن الدعم المعنوي الذي شعر به الثوار المصريون في تظاهراتهم المليونية أعطاهم دعماً معنوياً كاسحاً، خصوصاً أن الثورة التونسية كانت نموذجاً هادياً للشباب المصري، وكأن روح أبي القاسم الشابي تحلق فوق رؤوسهم في ميدان التحرير قائلة:

إذا الشعب يوماً أراد الحياة ... فلا بد أن يستجيب القدر

ومن إرادة هذا البيت الشعري الخالد خرج شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، وسوف تظل قابعة في ذاكرة المصريين والعرب تلك الأيام المجيدة من شهري كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) كعلامة مضيئة في التاريخ الوطني والقومي للمصريين والعرب، واضعين في الاعتبار خصوصية كل قطر عربي رغم التشابه في القواسم المشتركة، ولكن تبقى الحالة الوطنية في كل دولة عربية متميزة بظروف تاريخية واجتماعية وأوضاع اقتصادية وثقافية قد لا تكون قابلة للتكرار في كل الأحوال.

رابعاً: إن تراجع الدور المصري عربياً بشكل ملحوظ كان يمثل عقدة ذنبٍ ومركب نقصٍ لمعظم المصريين، خصوصاً إذا هبطوا إحدى العواصم العربية الأخرى وأدركوا حجم القلق من ضعف الدور المصري وابتعاده عن الطموحات العربية الكبرى بل ومشاركته الهامشية في إدارة الصراع على جانبه السياسي وحده! بعد أن تم تحييد الدور المصري عسكرياً باتفاقيات كمب ديفيد وتجميد روح المبادرة لديه بالمعونة السنوية الأميركية إلى جانب قطيعة مفتعلة مع بعض النظم العربية من دون مبرر واضح، ولقد تساءل الشباب المصري بعد ثورة 25 يناير عن أسباب الخلاف بين القاهرة ودمشق، رغم تسليمنا باختلاف الرؤى وتباين وجهات النظر في صراعنا مع إسرائيل، إلا أنهم لم يجدوا سبباً واضحاً إلا مجموعة من المواقف الشخصية إلى جانب الرغبة في الاستجابة للضغوط الخارجية!

خامساً: سوف يذكر التاريخ للثورة الشعبية المصرية مطلع عام 2011 أنها كانت من الذكاء بحيث تجنبت بعض الشعارات المتصلة بالسياسة الخارجية حتى لا يتم تأليب القوى الأجنبية عليها، ولكن إسرائيل بل والولايات المتحدة الأميركية أدركتا منذ اللحظة الأولى أن هذه الثورة الشابة تمثل صحوةً جديدة وروحاً تدب في أوصال أطراف الأمة العربية إيذاناً بتأكيد الرغبة في تعزيز روح مختلفة عن تلك التي سادت لسنوات عدة من دون مبرر واضح، ولقد كان غياب مصر شرخاً قومياً واضحاً شعر به الجميع وأدركه المصريون قبل غيرهم، فما أكثر ما تمادت إسرائيل في العدوان وما أوضح ما سعت إيران إليه من هيمنة وتدخلات، فالعرب منقسمون والقوى المؤثرة فيهم محدودة وسلبية المواقف تفرض نفسها على كل الأحداث التي تجري في المنطقة بلا قيادة واضحة أو مضمون قومي مشترك، ولقد حاولت الديبلوماسية التركية أن تملأ جزءاً من الفراغ بعد أن سبقتها الثورة الإيرانية في شغل مساحة لا بأس بها منه، بحيث أصبح العرب متفرجين أحياناً ومطحونين أحياناً أخرى، بل إننا لا نتجاوز الحقيقة إذا اعترفنا بأن بعض الدول العربية الكبيرة حاول جمع الشتات العربي وتغطية النقص في الدور المصري، ولا بد أن أعترف للديبلوماسية السعودية بقدر كبير من ذلك ولكن الواقع العربي والتربص الأجنبي لم يتركا مساحة كبيرة للحركة أمام تلك المحاولات الإيجابية.

هذه بعض ملاحظاتٍ للتفكير والتأمل في الآثار القومية للثورة الوطنية للشعب المصري، ويهمني أن أسجل هنا أنه من الصعب أن نحكم الآن على طبيعة التحولات التي سوف تجري في السياسة الخارجية والتوجهات العربية لمصر في المستقبل القريب، ذلك أن الرواية لم تتم فصولها بعد، كما أن مصر ما زالت في فترة انتقالية تحت حكم "المجلس الأعلى للقوات المسلحة". ولذلك فإن مظاهر التحول في الدور القومي لمصر وعودته إلى مساره الطبيعي لن تكون واضحةً قبل فترة نرجو ألا تطول. عندئذٍ سوف تكشف مصر عن وجهها العربي بعد أن ابتعدت لسنوات عن حضن أمتها بفعل ضغوط خارجية وخطايا داخلية، وقد صدق العرب حين رددوا أخيراً قائلين "عادت مصر"، ونحن على يقين من أن الأطراف الأخرى للصراع في المنطقة لن يسعدها ذلك التحول ولن يرضيها ذلك التوجه، ولكن مصر تدرك أن قوتها بالعرب وأنها من دونهم تصبح كماً كبيراً لا يكون له تأثيره ولا تبدو له قيمته.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف