المناعة السياسية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يوسف الديني
نهاية أغلب الثوار أن يتحولوا إلى طغاة أو مهرطقين..
ألبير كامو
هل تعيش المنطقة الآن لحظة انقطاع تاريخي عطفا على اعتبار أن زمن الثورات العربية أسس لمرحلة جديدة لا يمكن قياسها أو الحديث عنها بمعايير وأدوات الأجيال الماضية؟
الإجابة بنعم كبيرة بحجم الدوي والدوار الذي يعاني منه الآن الكثير ممن يحاول ملامسة لحظة الثورة بمفاهيم وعتاد غير ملائم لها.
اللحظة الثورية التي خلفها لنا الجيل السابق كانت منحصرة في لاعبين أساسيين: الأول منها تحالف طبقة من داخل السلطة للانقضاض على النظام السياسي من خلال استثمار ضغوط داخلية يتم فيها استخدام شعارات التعبئة والاتهام بالتخلف والرجعية والاستبداد، وبالتالي تحدث لحظة الانفجار عادة بانقلاب مسلح تقوده فئة صغيرة سرعان ما تتلبس صوت "الشعب" وتتحدث بلسانه؛ بينما تثبت الأيام اللاحقة أن ذلك الانقلاب - وهو عادة له أثمان بشرية واقتصادية هائلة - لم يكن سوى تبديل للوجوه لا يحمل أي تصحيح في الرؤى والسياسات والبرامج على الأرض.
وإذا ما طال أمد الانسداد السياسي وتضخم الاحتقان دون أن تحدث اللحظة الثورية يتم استدعاء ذلك الانفجار عبر التحالف مع "الخارج" المتمثل في القوى السياسية الكبرى والمهيمنة والتي تتفاوت مواقفها وقدرتها على تغيير الداخل بحسب مصالحها وتحالفاتها السياسية، إضافة إلى قدرة "النظام" الذي تواجهه على استفزاز المزاج الدولي كما حدث في العراق وحدث بشكل جزئي في ليبيا سابقا، ويحدث بشكل متقطع في إيران ودول أخرى.
وفي كلتا الحالتين لم يكن التغيير يطال "الشريحة المستهدفة" كما يقال عادة في الاجتماع وهم الشعب بحكم أن الأغلبية حتى في الدول التي تتخذ طابعا ديمقراطيا تعدديا شكلانيا ليست فاعلة في الحياة السياسية بسبب قوة قبضة السلطة السياسية وترهل المعارضة ومشابهتها للسلطة حد التطابق في كثير من الأحايين.
اليوم نحن نعيش لحظة انقطاع عن الزمن الثوري السابق بتغير مفهوم "الثورة" بدءا من مسمياتها ذات الدلالات المكثفة "الياسمين.. الشباب.. إلخ" مرورا بتحييد المعارضة التقليدية ممثلة في الأحزاب الكبيرة، وهذا لا يعني قدرتها على اقتطاف ثمار الثورة وربما اختطافها؛ ووصولا إلى وجود مناخات سياسية جديدة عززت ولادة مخاوف شديدة تجاه "الثورة" النيئة والخداج أو الحالمة إذا ما أردنا التعبير عنها بشكل إيجابي؛ هذه الطزاجة الثورية أو المراهقة يمكن أن تقرأها في تململ ثوار تونس من تأخر التغيير، أو خوف المصريين من اختطاف الثورة، أو حيرة اليمنيين من مستنقع الوقوع في حرب أهلية، أو فخاخ "القاعدة" هذا إذا ما استثنينا فزع الليبيين من محرقة القذافي ونتائج صلفه وهوسه المرضي بالإبادة.
أبرز هذه المناخات السياسية الجديدة هو الانقلاب على مفهوم السياسة التي تعني في أبسط صورها فن الممكن والدخول في اللعبة بكامل أدواتها البراغماتية من المناورة والتفاوض واللعب على سقف المطالب ومحاولة استمالة تحالفات داخلية وخارجية يمكن أن تساهم في تقليص الخسائر وتقليل أمد الثورة وكسب تأييد ودعم الخارج وتسيير شؤون البلاد فيما بعدها.
سياقات سياسية بدائية ومبدئية غائبة الآن لأن هذه الثورات لم تطعم - من وجهة نظري - بمناعة سياسية قوية مبنية على فهم معنى أن تتحول من مجرد ثائر إلى لاعب سياسي تقبل بشروط اللعبة وتتقنها بمهارة، هذه المناعة يخلقها وعي سياسي يرفده إما وجود أحزاب سياسية قوية وفاعلة لها برامجها ورؤاها ورموزها ومفكروها كما هو الحال في الأحزاب السياسية في الدول الغربية أو يغذي جماهير الثورة وفاعلها قيادات سياسية ذات طابع كاريزمي تحاول التأثير وضبط إيقاع الجماهير والتحكم فيه باتجاه التهدئة والمناورة والقبول بالشروط التي تسرع من عملية الإصلاح السياسي.
وللأسف فإن هذين الرافدين مغيبان عن لحظتنا الثورية تماما؛ فالأحزاب أو ما تبقى منها إذا اقتنعنا أن كثيرا منها يعيش حالة غياب وموات وهي في الأغلب الأحزاب غير الإسلاموية أو حالة تغييب كما هو الحال في الأحزاب الإسلاموية التي ما زالت مغيبة في أفكارها الشمولية ذات الطابع الأصولي والتي وإن قبل الغرب التعامل معها بذكاء سياسي وبرغماتية عالية فإن عدم فصلها ما بين الدعوي والسياسي يقودها إلى اصطدامات حتمية مع الواقع، هذا إذا ما تجاوزنا مقولة "الفزاعة" التي أصبحت هي بالتالي "فزاعة" تقال عادة لكل من يبدي تحفظه أو يمارس حقه النقدي تجاه وقائع وأحداث متكررة تؤكد مقولة "التغييب" السياسي الذي تعيشه تلك الجماعات والتي يجب على المتعاطفين معها قبل المناوئين أن يقلقوا منها وعليها.
وبين لحظة الغياب للأحزاب المترهلة التي بدأت تلعن السياسة وأدواتها في أشبه ما يكون لحظة هرطقة وزندقة - كما عبر ألبير كامو - بمبادئها وأفكارها السياسية الحزبية؛ ولحظة التغييب التي يخشى أن تحول تيارات الإسلام السياسي إلى نماذج طغاة جدد بشعارات جديدة.. بين تلك اللحظتين نحن بإزاء انقطاع تاريخي لمفهوم الثورة، نظرية وممارسة.