الثورات العربية.. تفاؤل وإحباط وتساؤلات عن مستقبل غامض
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
حاتم عز الدين - جدة
طرحت الكاتبة سوزان سترينج منتصف التسعينيات من القرن الماضي رؤية جديدة للدولة المستقبلية في كتاب يدل عنوانه وهو تراجع الدولة The Retreat of The State، على الفكرة الرئيسية فيه، وهو تراجع دور الدولة التقليدية بتركيبتها النخبوية والسياسية لمصلحة اللاعبين الجدد في الاقتصاد العالمي والشركات المتعددة الجنسيات والسلطات غير الحكومية، وبينما اعتبر البعض أن سترينج قد بالغت قليلا في تعظيم الدور الذي تلعبه الشركات متعددة الجنسيات والسلطات غير الحكومية الأخرى في تحديد رؤية البنية السياسية للدولة وتحركات نخبتها الحاكمة، ذهب المؤيدون إلى أن تآكل البناء السياسي للدول هو واقع لا مفر منه، وأن طبيعة النظام الاقتصادي في العالم سيحول النظم الحاكمة إلى موظفين سياسيين يظهرهم الإعلام في بلدانهم في ثوب الزعماء والقادة.
هذه النظرية لا تنطبق علي الأنظمة السياسية العربية التي ثارت عليها شعوبها ابتداء بتونس نهاية العام الماضي، فتآكلها لم يكن بأية حال بسبب طبيعة الاقتصاد العالمي ولا آليات التجارة الدولية، وإنما بسبب استبداد هذه الأنظمة وقمعها لحريات شعوبها.
وبات واضحًا أن ldquo;التمرد الشعبيrdquo; هو العامل الأكثر أهمية ليس فقط لتصدع النظم السياسية الحاكمة وتآكلها بل لانهيارها تمامًا، فهذه الثورات التي جاءت من القاع وبلا قيادات وهياكل تنظيمية فاقت في تأثيرها كل العوامل الخارجية الضاغطة، واستطاعت أن تفرض قيمها بلا إملاءات واشتراطات، وهى في كل الأحوال لا تؤمن بتراجع دور الدولة بالشكل الذي أوردته سترينج، إذن فتراجع دور الأنظمة السياسية في العالم كما تؤطره سترينج كنتيجة لطبيعة مستحدثة، استخدمته بعض الشعوب العربية كسبب في تطلع الثورات للإصلاح عن طريق أنظمة سياسية جديدة تستعيد دورًا مفقودًا للدولة، والثوار العرب لا ينكرون دور الضغوط الاقتصادية على دولهم، ولكنهم يعتقدون أن بإمكانهم تحديد هذا الدور عند مستوى معين لا يهدر كرامتهم أولا، وهم يرون في بعض النماذج والتجارب أنموذجا استطاع بشكل أو بآخر التعامل مع النظام الاقتصادي العالمي بامتياز دون أن يفقد للدولة ثقلها السياسي ومواقفها القوية، فالواقع يقول إن تركيا على سبيل المثال لم تخسر اقتصاديا ولم تهرب منها الاستثمارات عندما انسحب رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان من مؤتمر دافوس عام 2009 احتجاجا على العدوان الاسرئيلي على غزة، بل على العكس أكسب تركيا هذا الموقف ثقلا سياسيا أكبر في المنطقة العربية وأكسب أردوغان شعبية طاغية في محيط الشارع العربي.
التراجع لدور الدولة السياسي في مفهوم سترينج ليس له علاقة ببقاء النظام السياسي أو رحيله، ولكن في نظر الشعوب العربية الثائرة هو مدعاة لرحيل النظام وتغييره، والتراجع في مفهوم سترينج هو عملية تدريجية بطيئة لا يكون الوقت فيها بالعامل المهم، بينما يرى الثائرون العرب أن وقف التراجع مرتبط باستقرار قيم ثورتهم وتلبية مطالبهم بأسرع وقت ممكن، ولكن يا ترى كم سيستغرق هذا من زمن؟
عامل الزمن
يحمل مصطلح الثورة Revolution في طياته مدلولا زمنيا، فالمصطلح مأخوذ من علوم الفلك وهو مشتق من الدوران Revolve وهو يعني التغير الكبير، وهذا التغير يستغرق وقتًا ليس بالقصير إذا ما طلبته المجتمعات الإنسانية، وسياسيًا يعني المصطلح الخروج عن الوضع الراهن بتغير جذري، ويستغرق هذا وقتا، فهناك مشكلات تتعلق بالرؤية المحددة بالدستور والقوانين، ومشكلات تتعلق بمطاردة أوجه الفساد، ومشكلات تتعلق بفلول الأنظمة التي انهارت وملاحقتها ومحاسبتها، وأخرى تتعلق بإعادة بناء الحياة الاقتصادية وتهيئة وجدان الشعوب وتحسين حياتهم المعيشية والصحية وغيرهما، فضلا عن مواجهة صدامات شرسة ومتوقعة بين الأيديولوجيات والقيم بين الجماعات المختلفة بعد سقوط النظام وصراعاتهم للوصول إلى الحكم.
ولهذا لا يمكن وضع سقف زمني بين القيام بثورة ما وبين الاستقرار على قيمها، وسيكون ذلك نوعًا من التهريج السياسي، فلكل دولة ظروفها وطبائعها وثقافتها المختلفة، ولكن يفيد استلهام تجارب الثورات المتشابهة في صفات معينة عبر التاريخ في قياس العامل الزمني. ويفضل الباحثون عند الحديث عن الثورات الإشارة دوما إلى نموذج الثورة الفرنسية، التي باتت نموذجا كلاسيكيا يتم تدريسه في مناهج العلاقات الدولية ويشار لها على الدوام عند الحديث الفلسفي عن الحريات والحقوق. استمرت الثورة الفرنسية عشر سنوات كاملة، بدأت من عام 1789 وانتهت في 1799، وطيلة هذه السنوات لم يكن طريق الحكومات الثورية المتعاقبة سهلا على الإطلاق، فقد حاربت من أجل مطالب الثورة المتمثلة في شعارات الحرية والعدل والمساواة كثيرا، وواجهت ضغوطا كبيرة في سبيل إلغاء الملكية المطلقة، وواجهت قوة ونفوذ النبلاء الذين طالبوا بالإبقاء على امتيازاتهم الإقطاعية، كما أجهدها النمو المتزايد للتيار الديني الكاثوليكي ونفوذه القوي، حتى أوقفته.
وعلى الرغم من الاختلافات الثقافية والاجتماعية والظروف السياسية بين المجتمعات العربية والمجتمع الغربي، سنجد ثمة تشابهًا بين الثورات العربية في تونس ومصر والآن في ليبيا واليمن والثورة الفرنسية، فقضايا ازدياد نسب البطالة بين الشباب من أهم دوافع هذه الثورات، فضلا عن تضييق الأنظمة للحريات وتسلطها، واحتكار فئات معينة للسلطة والثروة معا، وإهدار حقوق الإنسان وغياب العدالة الاجتماعية، واشتركت الثورات كلها في المطالبة بضرورة التخلص من إرث طويل من الإحباط وجمود الحياة السياسية استفحلت معه مشكلات اقتصادية واجتماعية صعبة، بل شديدة الصعوبة.
متى تستقر الأوضاع؟
هناك عدة مراحل مرت بها الثورات ضد الأنظمة الحاكمة الفاسدة، ومن المهم إدراك ماهية هذه المراحل وصفاتها والمدة الزمنية التي استغرقتها قبل التفكير في الوقت الذي تستقر فيه قيم الثورة في الدولة. وتمتد المرحلة الأولى وهى مرحلة ما قبل الثورة إلى ما يزيد قليلا على العقد أو عشر سنوات، وتمتاز هذه الفترة بالتخمر والقلق الفكري على المستقبل في ظل ظروف تبدو حالكة السواد لا أمل في تغييرها بتفاهم معين مع النظام، وغالبا ما تصل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للبلد في هذا التوقيت إلى الحضيض، ففي الثورة المكسيكية على سبيل المثال، وهى أولى ثورات القرن العشرين الشعبية التي اندلعت في عام 1910 واستمرت ثلاثين عاما كاملة، ووصولا الى الثورات العربية في القرن الجديد كانت معدلات الفقر والبطالة المرتفعة من العوامل المهمة التي عجلت بقيام هذه الثورات، فضلا عن تفشي الفساد وغياب العدالة الاجتماعية وتآكل البنى الاجتماعية للشعوب وتدهور المستويات المعيشية للطبقات الأقل دخلا في المجتمع. ففي مرحلة ما قبل الثورة في المكسيك أرغمت الأوضاع الاقتصادية غاية في السوء الفلاحين والعمال الزراعيين إلى الدخول في حرب أهلية وسياسية، وقاد اميليانو زاباتا وبانشو فيللا حركات التمرد الفلاحية وحركات التذمر الاجتماعي الذي صاحب خسارة الفلاحين لأراضيهم والاستيلاء عليها من قبل أصحاب رؤوس الأموال، فقد كان الفلاحون ومعظمهم من ذوي الأصول الهندية يقومون بزراعة الأراضي المجاورة لقراهم أو العمل في مزارع واسعة كانت تعرف باسم هاسييندا، وكان ملاّك الأراضي يسخرونهم مقابل مبالغ زهيدة لا تكفي حاجاتهم الأساسية، كما اتسعت دائرة البطالة بأكثر من 20 بالمائة في هذا الوقت. وفي الثورة الفرنسية كانت أيضا الأوضاع الاقتصادية الصعبة محركا قويا للمجتمع الفرنسي قاده للتمرد على نظرية الحق الالهي في الحكم التي زادت من انتشار الفساد والظلم، ولأن فرنسا كانت تعتمد بشكل رئيسي على الزراعة في هذا الوقت، تراجع إنتاج المحاصيل وتوقف التطور في أساليب الإنتاج الزراعي في مرحلة ما قبل الثورة، مما أدى إلى ارتفاع نسب المجاعة وتفشي البطالة بالمدن، فضلًا عن المناطق الريفية، كما وصلت معدلات التجارة الخارجية لأدنى معدلاتها، فازدادت حركات التمرد الشعبي بشكل متنامٍ. وقد ساعد على انتشار قيم الثورة في هذه المرحلة المبكرة أفكار فلاسفة كبار مثل مونتسكيو وفولتير وجان جاك روسو، التي ألهبت مشاعر المجتمع بكل أطيافه، وزادته إصرارا على المضي قدما في تحقيق مطالبة الثورية وإقرار العدل والمساواة والقضاء نهائيا على التفاوت الطبقي.
ولا يختلف الحال في مرحلة ما قبل الثورة البلشفية في روسيا، التي اندلعت في عام 1917، عنه مع الثورات الأخرى في معالم الاضطراب الاقتصادي، فقبيل اندلاع الثورة وصلت البلاد إلى حافة الإفلاس، وزادت حركات التمرد في كل القطاعات بما فيها الصناعة والنقل، وتراجع الإنتاج الصناعي بنسب كبيرة تعدت 35 في المائة في العامين اللذين سبقا الثورة، كما تم إغلاق نصف الشركات والمراكز الصناعية الأخرى في أرجاء البلاد، مما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة وتزايد تكاليف المعيشة مع انخفاض الأجور بنسبة 50% عن عام 1913. وقد سعى كل من لينين وتروتسكي اللذين قادا الثورة إلى تطبيق أفكار كارل ماركس على أرض الواقع، بإقامة دولة شيوعية وإسقاط النظام بهدف تحقيق المساواة بين فئات الشعب والقضاء على الرأسمالية الإقطاعية وتنفيذ مبادئ العمل الاشتراكي الموحد.
والثورات العربية في تونس ومصر واليمن وليبيا في مرحلة ما قبل الاشتعال كانت هي الأخرى تعاني بلدانها من التراجع الاقتصادي، فضلًا عن تضييق الحريات من قِبل أنظمتها وسوء الأداء السياسي بشكل عام، وعلى الرغم من مشاركة فئات المجتمع في هذه الثورات إلا أن الشباب كان له دوره الواضح فيها بصورة أكبر من الثورات التاريخية الأخرى. وقد كان ذلك بسبب أن معظم المشكلات التي عانى منها المجتمع التونسي والمصري واليمني والليبي في السنوات العشر الأخيرة كانت تدور حول أوضاع الشباب ومستقبلهم، مثل قضايا البطالة والفقر وسوء التعليم وعدم تكافؤ الفرص وازدياد قضايا الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان. وقد تراكمت بشكل كبير مشاعر الإحباط للجيل السياسي الشاب في هذه المجتمعات وثقته في قدرته على إحداث تغيير ما يوقف ldquo;تدهورrdquo; سياسات أنظمته في الداخل والخارج. لعدم وجود المنابر أو حلقات الربط السليمة والصحية التي يستطيع الشباب من خلالها التحدث مباشرة مع المسؤولين وعرض رؤيتهم ومطالبهم، في ظل إهمال هؤلاء المسؤولين لمشاكلهم الحيوية والتضييق على آرائهم وأنشطتهم السياسية في القنوات الرسمية وداخل الجامعات والنقابات المهنية وغيرهما. وقد أظهرت الثورات العربية قدرة الشباب وخبرته التي اكتسبها بالتثقيف والممارسة في التواصل عبر شبكة الانترنت، مع انعدام أو تضاؤل الرقابة على الأنشطة الافتراضية على الشبكة، وبرزت هذه القدرة في استخدام رموز ومصطلحات جديدة ساهمت في تحرك نوعي جديد سيتوقف عنده دارسو التاريخ والعلوم السياسية طويلا.
الشاب التونسي العاطل عن العمل محمد بوعزيزي الذي انتحر حرقا بعدما فشل في أن يجد وظيفة له في الحكومة ففجر شرارة الثورة في الرابع عشر من يناير ولفت أنظار العالم إلى المعدلات المرتفعة للبطالة في هذا البلد العربي الصغير، التي بسبب عدم وجود توجيه سليم للموارد في ظل اتساع رقعة الفساد في المصالح الحكومية وتوجه استثمارات القطاع الخاص إلى المجالات، التي لا تتطلب عمالة كثيفة فضلا عن توحش النظام البيروقراطي وبسط نفوذه على كل مجالات العمل الرسمية وغير الرسمية تعد من أعلى المعدلات في العالم العربي ووصلت إلى 14.5%، وفى مرحلة ما قبل ثورة الياسمين في تونس ازداد الغضب والإحباط تدريجيا في المجتمع مع حرمان الناس من حقوقهم السياسية المتمثلة في الحرية والعدالة والشفافية وحرمان الكثيرين منهم من أمانهم الاقتصادي.
أما الثورة المصرية التي اندلعت في الخامس والعشرين من يناير والتي تقدمها الشباب فرفعت (تغيير.. حرية.. عدالة اجتماعية) شعارا لها، واكتسبت هذه الثورة اهتماما اكبر في الإعلام العالمي للدور التاريخي المهم الذي تلعبه مصر في المنطقة وتعداد سكانها الكبير، وقد عكس شعار الثورة القصير قائمة طويلة من المطالب السياسية دعت للتغيير الفورى والتخلص من إرث طويل من الإحباط وجمود الحياة السياسية في مصر الذي استفحلت معه مشكلات وأوضاع اقتصادية واجتماعية غاية في الصعوبة. وارتبط التغيير من هذا المنطلق بضرورة الإصلاح في الداخل بمعالجة قضايا الفقر والبطالة والفساد واحترام الحريات وحقوق الإنسان، وفى الخارج باستعادة دور مصر إقليميا ودوليا. وفى قضية الفقر ظل الوضع الاقتصادي والمعيشي الصعب الذي يعيشه المواطن المصري البسيط هو الهاجس الكبير لسنوات طويلة مضت في ظل نظام الحكم السابق، فهذا المواطن الذي يعيش فعليا على أقل من دولارين في اليوم، طالب كثيرا حتى بح صوته برفع الحد الأدنى للأجور، وتظاهر طويلا مع قوى عمالية في الكثير من الشركات والمصانع في القاهرة والغربية ومحافظات الصعيد وغيرها دون أن يلقى أي استجابة من الحكومة.
كما أدى انتشار قضايا التعذيب على شبكات التواصل الاجتماعي في السنوات العشر الأخيرة في مصر مع انتشار الملاحقات الأمنية وقضية الشاب خالد سعيد الذي قال المتظاهرون انه قتل على أيدي الأمن وقانون الطوارئ المستمر منذ ثلاثين عاما والتزوير الفاضح في انتخابات البرلمان لصالح مرشحي الحزب الحاكم وغيرها من القضايا منطلقا قويا لثورة 25 يناير، وربما كان من أبرز الخطوات التي استفزت الثوار أثناء انتفاضتهم هو قيام السلطات الأمنية بالتضييق عليهم وملاحقتهم وقطع وسائل الاتصال مثل الانترنت والهواتف الجوالة لمنع تواصلهم، واعتبر العديد من المحتجين هذه الخطوات تكريسا لمبدأ تضييق الحريات ومنع تداول المعلومات الذي قالوا إن النظام السابق قد دأب على ممارسته.
ويرى المراقبون أن المشهد في اليمن وليبيا لا يختلف كثيرا عن المشهد التونسي والمصري، وخاصة في مرحلة ما قبل الثورة، فمطالب الإصلاح السياسي والاقتصادي وضمان احترام الحريات وحقوق الإنسان والالتزام بالشفافية وعدم التضييق على العمل السياسي والحزبي هي الأعلى صوتا بين المتظاهرين، وكلها أو معظمها تمتاز بها هذه الفترة المضطربة من عمر الثورات في العالم، بغض النظر عن التوجه الأيديولوجي الثيوقراطي كما هو الحال في الثورة الإيرانية أو الشيوعي للثورة الروسية أو الليبرالي للثورة الفرنسية أو التوجه الديمقراطي العام، الذي يبحث عن الدولة المدنية الحديثة الذي يلازم الثورات العربية.
بقي أن نقول إن ثمة اختلافًا واضحًا بين الثورات في العالم والثورات العربية الأخيرة في مرحلة الاحتقان وهو غياب القيادات السياسية والفكرية في الأخيرة، ويعتقد الخبراء أن علو صوت بعض رموز العمل السياسي في الفترة الأخيرة في مصر وتونس يبدو كمحاولة لكسب التعاطف الشعبي بعدما صاحبتهم اتهامات بالسلبية والعجز في فترات ممتدة سابقة.
عنفوان الثورة
المرحلة التالية من الثورات تكون هي فترة العنفوان والقوة، والحماس والرغبة الأكيدة في تحقيق المطالب في أسرع وقت وفى الصورة المثالية، التي لازمت مخيلة الشعوب لسنوات طويلة. وتتميز هذه المرحلة بالضغط الكبير والمستمر على البناء السياسي للدولة والنخب الحاكمة لتحقيق طموحات قد لا يكون بعضها منطقيا أو قابلا للتحقيق على أرض الواقع. وتتميز هذه المرحلة أيضا بتلاحق الأفكار والرؤى، كما يتخذ الثوار فيها موقفا عدائيا وحادا ضد كل من تعامل مع النظم السابقة حتى ولو لم يكن لديه الصلاحيات الكافية لتقرير أو تنفيذ سياساتها. ففي فترة عنفوان الثورة المكسيكية عملت حكومات الثورة على تحقيق مطالب الثوار وخاصة الاقتصادية منها، وباشرت هذه الحكومات في الإصلاحات ليتم إصدار قوانين الإصلاح زراعي في عام 1917، واحتاج إعادة توزيع كامل أراضي الإقطاعيين على الفلاحين إلى ما يقرب من خمسين عاما ولم يتم بصورة نهائية إلا في العام 1964. وبالرغم من الحروب الأهلية التي صاحبت الثورة عقب اغتيال الرئيس الديمقراطي فرانشيسكو ماديرو عام 1913، فقد نما الاقتصاد المكسيكي بمعدل فاق 12% في العام، وزادت الصادرات المنجمية والزراعية بشكل كبير، وشهد قطاع النقل طفرة هائلة وربطت السكة الحديد أرجاء البلاد.
وفي فرنسا استطاع الثوار في فترة الثورة الأولى تأسيس الجمعية الوطنية، واحتلال سجن الباستيل المرعب، الذي ظل لعقود مسرحا لأبشع عمليات التنكيل والتعذيب، وتم إلغاء النظام الإقطاعي الذي دمر القطاع الزراعي وإصدار أول بيان لحقوق الإنسان وتحرير الاقتصاد ومصادرة أملاك الكنيسة ووضع أول دستور للبلاد، وكل ذلك في فترة لا تتجاوز السنوات الثلاث من عام 1789 وحتى عام 1792. وفي السنوات القليلة التالية امتدت روح الثورة الفرنسية لتعلن بداية النظام الجمهوري ويتم إعدام الملك لويس السادس عشر وزوجته مارى أنطوانيت. وفي الثورة الروسية تمكن البلاشفة من الاستيلاء على المرافق الحكومية الرئيسية في العاصمة سانت بطرسبرج في العام 1917 وهو الحدث المفصلي في تاريخ الثورة الذي مهد فيما بعد لتأسيس ما أطلق عليه مجلس مفوضي الشعب كأساس للحكومة الجديدة وملاحقة رموز النظام السابق واعتقالهم في قلعة بولس وبطرس.
وفى الشرق وفي إيران تحديدا اندلعت ثورتها الإسلامية عام 1977، وشهدت فترة عنفوانها تحالفات ما بين الليبراليين واليساريين والجماعات الدينية لإسقاط الشاه، ثم ما لبث ان شهدت الثورة تصدر آية الله الخميني للمشهد، فعزز سلطته وقمع زعماء الجماعات المعارضة للسلطة الدينية.
وقد مرت الثورات العربية بفترات القوة والعنفوان هذه، فتحت إلحاح الثوار سقط نظام زين العابدين بن علي ونظام حسني مبارك، وشهدت تونس ومصر إجراءات إصلاحية واسعة وسريعة استهدفت تلبية مطالب الثوار وإبعاد رموز النظم السابقة في إدارة شؤون البلاد. ففي تونس أعلن الرئيس التونسي بن على في خطاب ألقاه عقب اندلاع الثورة عن إصلاحات سياسية وإجراءات تضمنت إقالة بعض المسؤولين في الحكومة وتخفيف حدة المراقبة لنظم الاتصالات وإتاحة قدر أكبر من حرية تبادل المعلومات، ولكن لم يكن ذلك كافيا بالنسبة للشعب التونسي، فرحل الرئيس التونسي ثم أقيلت الحكومة بكاملها، واعتقل مدير جهاز الأمن الرئاسي الجنرال علي السرياطي وتم تجميد الحزب الحاكم وتولي رئيس مجلس النواب فؤاد المبزع منصب رئيس الجمهورية بشكل مؤقت إلى حين إجراء انتخابات رئاسية مبكرة خلال فترة من 45 إلى 60 يومًا، كما عاد بعض المعارضين من المنفى وأفرجت الحكومة عن 1800 سجين من سجناء الرأي كما رفعت حالة الطوارئ في البلاد.
وفي مصر عمدت ثورة الغضب في فترة عنفوانها إلى رفع مطالب فورية وأخرى في الفترة الانتقالية. وتضمنت المطالب الفورية ضرورة تنحي رئيس الجمهورية محمد حسني مبارك، وهو ما تم فعلا في الحادي عشر من فبراير، وإلغاء العمل بقانون الطوارئ، وإلغاء جهاز مباحث أمن الدولة وهو ما تم مؤخرا فاستبدل الجهاز بإدارة أخرى تسمى الأمن الوطني، وحل مَجلسي الشعب والشورى وهو مطلب أساسي تم تلبيته، والإفراج عن كل المعتقلين منذ 25 يناير، وإنهاء حظر التجوّل لعودة الحياة الطبيعية في كل أنحاء البلاد، وإلغاء الحرس الجامعي، وإحالة المسؤولين عن استخدام العنف ضد المتظاهرين السلميين منذ 25 يناير، والمسؤولين عن أعمال البلطجة المنظمة التي تَلَت 28 يناير للتحقيق، وإقالة أنس الفقي وزير الإعلام السابق ووقف لهجة التخوين والتهديد في أجهزة الإعلام الحكومية ضد الثورة، ووقف إثارة الكراهية في الشوارع ضد الأجانب، وتعويض أصحاب المحلات عن خسائرهم أثناء حظر التجول. وقد تحقق الكثير من هذه المطالب ووعد المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإنهاء حالة الطوارئ قبل سبتمبر المقبل وهو موعد الانتخابات البرلمانية، كما تم تعديل 9 مواد في الدستور وافق المصريون على صياغتها في استفتاء عام تم في 19 مارس. كما ظهرت مطالبات تدعو للحق في إصدار الصحف بلا ترخيص مسبق، والقنوات التلفزيونية والإذاعة والحق في تكوين الأحزاب وإنشاء النقابات والجمعيات بالإخطار، وتحقيق استقلال حقيقي للصحف القومية والإذاعة والتلفزيون القوميين بكل ما يتطلبه ذلك من تشريعات وإعادة هيكلة لمؤسسات وهيئات ووزارات ووقف التحكم الأمني في الاتصالات والانترنت.
وفى الغالب لا تستغرق هذه الفترة طويلا، ويعتقد الكثير من علماء السياسة أن معظم مطالب الشعوب يمكن تحقيقها في هذه الفترة، التي تعتبر في كثير من الأحوال المقياس الحقيقي للتوجه العام للدولة بعد الثورة. وكلما كانت الاستجابة لمطالب الثوار في هذه الفترة محدودة وليس لها التأثير الكافي على صناع القرار كلما كان هذا مؤشرا على إمكانية فشل الثورة وإجهاض محاولاتها للتغيير والإصلاح.
-------------------------
صدامات داخلية
تدخل الثورات في الغالب مرحلة لاحقة تصطدم فيها الأفكار والرؤى مع بعضها البعض لدرجة أنها قد تصل لحد التخوين والاتهام بالعمالة أو الكذب والنفاق السياسي، وفى هذه المرحلة تبدأ بعض مظاهر الضبابية وتشوش الصورة في مشهد الثورة يبدو كالبقع السوداء في ثوبها ناصع البياض، وتعلو بعض الأصوات التي تحاول أن تجد لها مكانا في صفوف الثورة الأمامية بعدما كانت تقبع في الخلف، كما تبدأ فعليا في هذه الفترة ما يطلق عليه الثورة المضادة التي تهدف إلى تقويض مطالب الثوار ومحاربة قيم الثورة وتقليص خسائر النظم السابقة لأقصى درجة ممكنة. والثورة المضادة هي محاولات من فلول الأنظمة التي سقطت إلى العودة مجددا إلى الساحة بشتى الوسائل. وغالبا ما يشير الحكام في البلدان غير المستقرة سياسيا إلى هذه الفترة للدلالة على الضرر الذي يمكن أن يلحق بها جراء قيام الثورات، وهذا بالتحديد ما أشار له العقيد الليبي معمر القذافي عندما تحدث عن ضرورة التصدي لمن سماهم المرتزقة في ليبيا داعيًا الليبيين بعدم الانصياع لهم أو التمرد على الحكم مستشهدًا بتراجع أداء الاقتصاد التونسي ونظيره المصري ldquo;الطبيعيrdquo; في هذه المرحلة من عمر الثورة مستخدما عبارات مثل ldquo;هل تريدون أن تصبحون مثل تونس؟ ldquo;ولن نصبح مثل مصر ldquo;المسكينة المنهزمةrdquo;!.
كان لافتا للنظر في المكسيك وروسيا والأرجنتين وشيلي وغيرها ان تظهر في هذه المرحلة من عمر الثورة صدامات وحروب دامية راح ضحيتها الآلاف، وبالطبع لم تصل الثورات العربية ولا نتمنى أن تصل إلى هذه المرحلة الدموية والفتن الداخلية المقيتة.
ولعل الثورة المضادة أكثر ما يقلق الثوار العرب، وقد انقسم المحللون في المنطقة عن إمكانية نموها في الفترات اللاحقة، فأكد البعض إمكانية حدوث ذلك مستشهدا بالثورة الفرنسية التي شهدت مرحلة التراجع الثوري فيها عودة البورجوازية وإن كانت أكثر اعتدالا لتسيطر على الحكم وتضع دستورا جديدا متحالفة مع الجيش، كما شهدت انقلابا عسكريا وضع حدا للثورة وأنشأ نظاما ديكتاتوريا توسعيا. أما البعض الآخر فلا يراهن على صمود الثورة المضادة، ويراهن على أمثلة تاريخية كحملة مكافحة الثورة البلشيفية للثورة المضادة في روسيا، التي قضى من خلالها البلاشفة على كامل أعدائهم ومعارضيهم من فئات وأطياف متعددة، وان حدث ذلك في صورة قمعية ولجان محاكمة استثنائية لا تتفق مع التوجه الديمقراطي المنشود في الثورات العربية الحديثة. وفى مصر على سبيل المثال اعترفت الحكومة الجديدة بوجود الثورة المضادة ووعدت بالقضاء عليها، وبرزت بعض محاولات من قبل التيار الديني للقفز على مكتسبات الثورة، كما أوجد وجود بعض رؤوس النظام السابق حتى الآن دون محاسبة والغموض الذي يكتنف بعض الاتفاقيات التجارية بعض الشك في نفوس الثوار واعتبروا ذلك بمثابة تراجع لقيم الثورة في المجتمع.
-------------------------
نتائج ودروس مستفادة
استغرقت الثورة المكسيكية ثلاثين عاما، والفرنسية عشرة أعوام، والروسية ستة أعوام أو يزيد حتى تم الاستقرار على قيم الثورة، ولا احد يعلم على وجه التحديد متى سيتم الاستقرار على قيم الثورات العربية المنادية بالديمقراطية والتحول للدولة المدنية الحديثة في هذه المرحلة المتأخرة نسبيا بعدما يتحدث العالم الآن عن عصر ما بعد الدولة المدنية، والجزم بتاريخ زمني محدد أمر صعب، ولكن في كل الأحوال يرتبط ذلك بأمرين رئيسيين، الأول هو قدرة قيم الثورة على الصمود في المجتمعات العربية التي تئن تحت وطأة مشكلات مزمنة تعلقت بأجيال عانت طويلا من الحرمان والجهل والخوف، والثاني هو قدرة هذه الثورات ليس فقط على تغيير الحكم والبنية السياسية وإنما على إعادة تشكيل العقول، وإرساء قيم الحوار البناء والشفافية واحترام رأى الآخر وثقافته وديانته قبل التحول الديمقراطي المنشود، ومن المؤكد أن هذا سوف يستغرق وقتا طويلا وسيصطدم بعوائق صعبة وشائكة، فنظم التعليم على وجه الخصوص مهترئة للغاية وتحتاج إلى حلول جذرية سريعة ستنهض معها قدرات المجتمع الذي يرغب أبناءه في غد أفضل أكثر إشراقا.
وفي كل الأحوال لا بد أولا من الاستقرار على قيم الثورة في تجارب تونس ومصر واليمن وليبيا، لأن وعي الشعوب بهذه القيم هو أفضل ضمان لنجاح هذه الثورات مهما كان المال السياسي للنظام بعد فترة من الزمن، فبالتأكيد الثورة الفرنسية لم تكن فاشلة بسبب عودة بعض ممارسات النظم الاستبدادية في فترات لاحقة، ولا نظرياتها في أمريكا اللاتينية مثلا، ولكنها كانت ناجحة بقدرتها على توعية الشعب وتنويره وتعريفه بحقوقه وواجباته، ولذلك فكلمة الشعوب في النهاية هى المسموعة وإن احتاجت للثورة مرارا وتكرارا ومهما كان بناء نظامها السياسي، ويظهر ذلك جليا في أوروبا وأمريكا اللاتينية، التي باتت تسرع هي الأخرى من خطاها نحو الديمقراطية والإصلاح بل تسهم، مثل البرازيل والأرجنتين، بسياساتها الاقتصادية والتجارية في صياغة التوجهات العالمية الجديدة بكل ثبات وقوة.