التحوّل العربي الى الديموقراطية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
شمس الدين الكيلاني
استخدمت الدولة العربية الحديثة، سواء أكانت قد نشأت تحت يافطة اليسارية أو القومية، أو كانت ليبرالية محافظة تقليدية، آليات متشابهة لضبط حركة الجمهور، وللهيمنة على أفق التنمية والتحديث، فكانت الحصيلة تحديثاً مشوهاً، وتقويضاً للحياة السياسية وحياة المجتمعين المدني والأهلي. لم تتمكن هذه الدولة من بناء شرعيتها الشعبية، وذلك لنزوعها الشديد للمركزية والتسلط. بيد أن النخب السياسية قد تعرض وعيها السياسي لتحولات عميقة، فبعد أن هيمنت عليها، في الحقبة التقدمية، فكرة "الانتقال إلى الاشتراكية"، ما لبثت الأحوال أن انقلبت في الثمانينات مع وصول تجربة اشتراكية (الدولة التقدمية) إلى طريق مسدود عالمياً ومحلياً، فاتجهت أنظار تلك النخب إلى التفكير بسبل الانتقال إلى الديموقراطية، كمخرج من مأزق الاستبداد، سواء مع الدولة التقدمية المدعومة من الشرق، أو في كنف الدولة التقليدية. وفي ظل هذا المناخ الذي سقطت فيه المرجعيات العليا لنموذج الدولة الأوامرية الشمولية اتجه المثقفون العرب على تلويناتهم المختلفة اليسارية والقومية والإسلامية إلى مراجعة، متفاوتة العمق، لتصوراتهم القديمة عن الدولة، ولمبدأ التداول السلمي الديموقراطي للسلطة.
لكن، وعلى الرغم من هذا المناخ الفكري المواتي لانتشار الديموقراطية والمجافي للاستبداد، ما تزال الديموقراطية تواجه العديد من المعوقات، منها عوامل أو ذرائع خارجية، في مقدمتها استمرار العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني، واحتلاله لأراضي العديد من الدول العربية، ووصول التسوية إلى طريق مسدود، وهو ما يتيح للسلطات التذرع بالخطر الخارجي لتأجيل النظر في المسألة الديموقراطية التي يمكن برأيها أن تُظهر الانقسامات في الرأي الوطني في وقت تحتاج فيه البلاد للوحدة، وهناك عوامل خارجية طارئة أتت في عقابيل الاحتلال الأميركي للعراق حيث باتت الديموقراطية تختلط لدى الكثيرين بالاحتلال والتدخل الغربي وأيضاً باحتمال الاحتراب الداخلي، فاستثمرت النخب الحاكمة هذا الوضع لإرعاب الناس من الديموقراطية واتهام المطالبين بها بالارتباط بالخارج.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد ارتبطت الأنماط المتقادمة للحكم بالمصالح المادية والرمزية للنخب الحاكمة، التي صنعت بأيديها نمطاً أوامرياً لبناء الدولة، وأشرفت على آليات عمله، وافتقاد تلك النخب للمبادرة الأخلاقية لملاقاة رياح التغيير والتعبير الواعي عن المصالح الوطنية لشعوبها، ساعدها على ذلك الطابع المركزي للدولة العربية، والذي ارتبط باقتصاد ذي طابع ريعي، تتحكم الدولة فيه بمفاتيح النشاط الاقتصادي إنتاجاً، وعمالة، وتوزيعاً، وبقطاع دولة واسع شكل القاعدة الاجتماعية والمادية لنفوذ وهيمنة النخب الحاكمة، وهو ما أهَّل تلك النخب لأن تروّض القطاع الخاص.
يضاف إلى تلك المعوقات ضعف الحركة الشعبية العربية نتيجة دوام الاستبداد، وتغلغل الأجهزة في مسام المجتمع، والضربات المتلاحقة لقيادات المجتمع ورموزه، وتفكيك السلطة للمجتمع المدني والأهلي، وأورث هذا الوضع برمته ضعفاً مزمناً للمعارضة، التي وإن كان الجسم الأساسي منها يتطلع إلى التغيير الديموقراطي السلمي، فإن بعضها ما يزال يحتفظ باللغة الانقلابية، والنزعة الثأرية، وينبذ سلوك الطريق السلمي، ويُثقل الديموقراطية بحمولات إيديولوجية.
غير أننا إذا نظرنا إلى مشهد السلطة من زاوية أخرى، نلاحظ أنها تعاني من ضعف بنيوي، في مقدمة مظاهره افتقارها الشديد إلى الشرعية، وهيمنة الطابع الانقلابي على سلوكها في الداخل والخارج، وعجزها المكشوف عن الوفاء بشروط تقدم المجتمع وضمان وحدته الوطنية الفعلية، أي فشلها بالتنمية البشرية لتمكين أفراد المجتمع من ممارسة حقوقهم الإنسانية المعترف بها، واحترام التعددية الثقافية والسياسية.
منحتنا تجربة الانتفاضة الديموقراطية التونسية وبعدها التجربة المصرية فرصة لفتح كوة في جدار الاستبداد، ومهدتا الطريق للعبور إلى الديموقراطية في المجال العربي، وعلمتانا دروساً كبرى، أولها: أنه عندما يصبح الحاكمون غير قادرين على السيطرة على المجتمع بالطريقة القديمة، ولم يعد الشعب يحتمل طريقة الحكام في التعامل معه، ينفسح المجال عند ذاك أمام المجتمع للإمساك بمصيره، من دون أن يحتاج الأمر لأحزاب (طليعية) وجماهيرية لقيادة الجمهور ولتسديد خطاه لتحقيق التحول الديموقراطي، ربما كان ينطبق هذا على الثورات في زمن التلغراف والراديو، أما في عصر الاتصالات الحديثة عصر الانترنت والفايس بوك، والفضائيات العابرة للقارات، فإن هذه الوسائل تقوم بدور اللاحم لتذررات الأفراد والجماعات، وأداة توصيل وتراسل بينهم، تجعلهم يستغنون، أو لا يحتاجون بالضرورة للأحزاب الجماهيرية والزعامات الشعبية الكبرى، التي يتعثر نشوؤها في ظل الاستبداد والقمع اللذين يدمران الحياة السياسية باستمرار، ويقضيان على فرص بروز الزعامات الشعبية، وفرص قيام أحزاب جماهيرية فعالة.
كما أن البارز في هاتين التجربتين هو أن القوى المحركة لهما هي العناصر الشبابية (طلاب الإعدادي والثانوي والجامعي) تلك الفئات التي أدمنت التعامل مع وسائل الاتصال الحديثة، وساعدتها السرعة الهائلة لانتشار (الصورة) عبر الفضاء المفتوح، وأيضاً أنها لم تختبر بشكل كافٍ الجرعات الدموية للأقبية ولصفعات الجلادين التي نالت من إرادة وأحلام الأجيال العمرية الأكبر، فهي ما تزال تملك أحلاماً كبيرة لمستقبل تحرص أن لا يضيع هدراً، وجناحان يقويان على الطيران، بخلاف جيلنا الذي تكسرت أضلاعه وأحلامه وإرادته تحت هراوات الجلادين. وربما سيقود نجاح تجربة الانتفاضتين التونسية والمصرية في الانتقال إلى الديموقراطية إلى تحول فكرة الديموقراطية، في المجال العربي، من فكرة للنخبة العربية إلى أيديولوجية مهيمنة على الوعي السياسي العربي، يجعل من تأثيرها على البلاد العربية السبيل لمقاومته، بالقدر الذي ستؤسس فيه لانحسار تصورات الإسلاميين الطوباوية عن الدولة.