السياسة الإيرانية .. قراءة غلاة المتطرفين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
مـحـمـد بن علي الـمـحـمـود
يقرأ كثيرٌ من المراقبين ما تقوم به إيران في محيطها الإقليمي على أنه خطر داهم يتهدد الجميع ؛ لأن كل ما تقوم به إيران خارج حدودها ، وعلى كل المستويات ، يدعو إلى الريبة والتوجس ، ويمنح كل قراءة ارتيابية نوعاً من المصداقية التي تحتاجها التيارات الحركية الإيديولوجية لتلهب بها خيال جماهير العنف ، أولئك المتعطشين إلى الاصطفاف ، أولئك الذين لا يجدون أنفسهم وجودا حقيقيا أو وجود هوية إلا في ميادين الصراع .
ما يحرك السياسة الإيرانية ، سواء في الداخل أو في الخارج ، ليست المبادئ العقائدية كما يَدّعي غلاة العقائديين . ما يحرك السياسة الإيرانية ليس أكثر من غرائز سياسية بدائية ، لا تزال تعيش أحلام الإمبراطوريات كما في الزمن القديم
السياسة الإيرانية ، منذ ما قبل إيران الخميني وإلى اليوم ، كانت سياسة توسعية ، كانت سياسة هيمنة تتعمد تطويع الآخرين . ومن هنا كان لابد أن تصطدم بممانعة الآخرين ، وبتخوف الآخرين .
إن الخوف والممانعة يورثان الطرف المقابل (الطرف الذي يقرأ سلوك قُوَى الهيمنة) إحساسا بالعزلة ، إحساسا بأنه غير مقبول في محيطه الذي يراه كجزء من فضائه العام . وقد يتطور ذلك إلى شعور حاد بأن الآخرين ينظرون إليه كعدو مكروه ، ومن ثم ، يبدأ تلبس حالة العداء ، أي يبدأ يمارس سلوكه على ضوء ما تمنحه إياه توقعات الآخرين .
ما يحرك السياسة الإيرانية ، سواء في الداخل أو في الخارج ، ليست المبادئ العقائدية كما يَدّعي غلاة العقائديين . ما يحرك السياسة الإيرانية ليس أكثر من غرائز سياسية بدائية ، لا تزال تعيش أحلام الإمبراطوريات كما في الزمن القديم . ما يحرك إيران هو ما تعتقد إيران أنه يصب في مصلحة (إيران العظمى!) على نحو مباشر أو غير مباشر . وهي اليوم ترى أن مصلحتها تكمن في الهيمنة على كل الدول التي تنتمي إلى محيطها الإقليمي ، وأن تكون لها الكلمة الأولى والأخيرة في توجيه المحددات الرئيسية لسياسة هذا المحيط .
ليست العقائد هي ما يحدد طبيعة السياسة الإيرانية ؛ إلا بمقدار ما تخدم هذه العقائد فرضايات السياسة الأولى . حتى غلاة العقائديين المتنفذين في السياسة الإيرانية ، لديهم استعداد غير محدود وغير مشروط لتوظيف العقائد وتطويعها من أجل فاعلية أكبر للعملية السياسية التوسعية ، وليس العكس ، كما يتصور بُسطاء المتدينين .
النَّفَس البراجماتي المُوغل في ذرائعيته هو النَّفس المتحكم في الخطوط الرئيسية للسياسة الإيرانية التي تنتهجها دولة المُعمّمين ، الدولة الثيوقراطية الوحيدة في القرن الواحد والعشرين .
لا شك أن إيران استطاعت ، بما تمتلكه من إمكاناتها كدولة كبرى في المنطقة ، أن تخدع بشعاراتها كثيرا من جماهير البائسين ، وأن تلعب على أوتار الطموحات الأممية لعامة المسلمين . ولا شك أن الشعارات الدينية كانت هي الأجدى والأقوى في هذا المضمار ، مضمار خداع أولئك الذين لا يزالون يعيشون التاريخ بأكثر مما يعيشون الواقع . أي أن إيران استطاعت تحقيق نوع من الحشد الذي يمنحها قدرا من التعاطف الجماهيري ، كما استطاعت الظفر بعدد محدود من العملاء المتطوعين .
ليست المشكلة هنا ، في أن إيران تنتهج سياسة توسع وهيمنة ، ولا في كونها تستقطب بشعاراتها المعلنة ، وبدعمها الخفي أكبر قدر من الأتباع ، وإنما تكمن المشكلة في نوعية القراءات التي بدأت تنداح في الساحة ، والتي تحاول الكشف عن طبيعة السياسة الإيرانية ، وذلك بالتركيز على الأبعاد العقائدية للمذهب الرسمي في إيران (= التشيع الإثني عشري) ، وكأن تلك الأبعاد العقائدية هي مصدر الرؤية السياسية لإيران ، أو أنها المحرك الدائم للصراع الدائر منذ أمد بعيد بين إيران وجيرانها الإقليميين..
إيران كدولة هي كيان سياسي محدود بحدود الزمان والمكان . إيران ، كأية دولة ، حالة طارئة ، لها عمرها الافتراضي ، كما أن لها حدها الجغرافي الخاص . إيران مهما تشيعت ، ومهما بلغت درجة تبنيها للتشيع ، تبقى غير متطابقة مع التشيع وجودا وهوية.. التشيع ليس هو إيران ، كما أن إيران ليست هي التشيع . التشيع أكبر من إيران ، وأطول منها عمراً . التشيع كمذهب ، وُجد قبل إيران وسيبقى بعدها ، وهو موجود خارج إيران ، كما هو موجود داخلها ، وهو معارض للسياسة الإيرانية في بعض أطيافه ، كما هو مؤيد لها في بعض خيارات أطيافه الأخرى . ومن هنا ، لا يمكن بحال تحميل المذهب الشيعي جرائر السياسة التوسعية ذات الطابع الإمبراطوري لإيران ؛ لأنه ليس هو المحرك الأساس بل ولا الثانوي لما نراه اليوم من خيارات سياسية شوفينية تطبع سلوك الساسة الإيرانيين .
أفهم ، وربما أتفهم أيضاً ، أن يتم فحص طبيعة علاقة إيران بالتيارات الحركية الشيعية في أي مكان ؛ لأنها في النهاية ذات بُعد غائي سياسي . كما أتفهم حقيقة أن العلاقات الاتباعية ذات الطابع السياسي تبقى شيئا مقلقا ، ولابد من مواجهتها وفضحها على أكثر من مستوى ، وفي كل مجال . لكن ، ما لا أفهمه ، وحتى إن فهمته لا أتفهمه ، هو هذا التناول التحريضي الذي يستغل فرصة الاصطفاف السياسي لتصفية خصومات الفكر ، والذي يعمد إلى استحضار مسائل عقائدية خلافية في هذا المعترك السياسي ؛ مع أنها (كمسائل عقائدية لا علاقة لها بالأحداث الجارية اليوم ، لا بشكل مباشر ، ولا بشكل غير مباشر) لا تقدم ولا تؤخر في تحديد طبيعة الخيارات السياسية ، ولا في تقدير مستويات الصراع .
إن غلاة الغلاة من متطرفي التقليدية قد استغلوا سخونة الأحداث الراهنة ، وما تتمتع به هذه الأحداث من نفس صراعي ، وذلك من أجل نبش المطمور العقائدي ، والتشنيع على الآخرين ، ونقل الصراع الدائر اليوم من نطاق الصراع السياسي على المصالح ، إلى نطاق الصراع على مسائل الاعتقاد ، أي نقل الصراع من مسائل محدودة زمانا ومكانا إلى مسائل تاريخية يستحيل الإمساك بها ، فضلا عن الوصول بها إلى نقطة اتفاق .
لقد تصور غلاة الغلاة من سدنة التقليدية أن بإمكانهم أن يستثمروا الأحداث في الترويج لمقولاتهم الخاصة ، وأن تصفية الحسابات الفكرية لن تجد مكانها المناسب إلا في هذا الظرف المشحون سياسيا ، وأن أحدا في مثل هذا الظرف الاستثنائي لن يعترض على حِدّية مقولاتها ، ولا على اتهاماتها الطائفية التي تصل إلى حد التكفير الصريح المتضمن لكل مقدمات الإلغاء .
عندما تسمع النقاشات الإعلامية التي تعالج موضوع التدخلات الإيرانية ، والتي تبدأ وتنتهي للأسف بالخلاف العقائدي على يديْ غلاة التقليديين ، لا تدري ، هل الخلاف بيننا وبين إيران هو فيما نراه ونسمعه من تدخل فجّ في الشأن الداخلي ، واحتلال لبعض الجزر الإماراتية ، واستشراء النفوذ غير المشروع في العراق ، وادعاءات في البحرين ..إلخ ، أم أن الخلاف متحدد في الموقف الفكري من فلان أو فلان قبل أكثر من ألف عام ؟!
إن الخلاف بيننا وبين إيران هو خلاف محض سياسي ، أي أنه ظرفي ، فلماذ يُصرّ الغلاة المتطرفون على جرّه من منطقته المدنية الظرفية إلى منطقة الصراع العقائدي الأزلي؟ ، لما تفتح القنوات الإعلامية المتطرفة (الذكورية!) أبوابها لكثير من الغلاة ، بل لكثير من غلاة الغلاة ؛ تحت مظلة نقاش السياسة الإيرانية في المنطقة ؟ ، لماذا تُطرح مسائل عقائدية صرفة في سياق مساءلة السياسة الإيرانية ، وكأن الصراع الجاري على مصالح بين الدول هو صراع على مسائل الاعتقاد ؟!
اليوم ، وفي ظل الاستغفال الإعلامي الرخيص ، تقوم قنوات التطرف التي تتراءى في لبوس التسامح والاعتدال برحلة الحشد الطائفي . لقد بدأت تلك القنوات المتطرفة تستضيف غلاة الغلاة من مروجي مقولات التقليدية وأدبياتها التكفيرية؛ وكأنها تستضيف رموز التسامح والاعتدال . تلك القنوات الهابطة فكرياً بدأت تبتسم ظاهريا ، بينما فحيح مقولات التقليدية المتضمنة لكل التُهم المنتهية بالتكفير ، هو الصوت الأشد لصوقاً بمسامع المشاهدين المشدودين إلى مسرحية هابطة تحكي قصة صناعة وترويج الكراهية والعداء .
وإذا كان من الطبيعي أن توجد شبكات تجسس ، وأن توجد ولاءات معلنة وغير معلنة ، تابعة لإيران ، فليس من الطبيعي أن يتم ربط هذا بمذهب يحظى بكثير من الأتباع في كل زمان ومكان . من الطبيعي لدولة توسعية كإيران أن تسعى لاستثمار كل ما هو موجود لصالحها ، وأن تسعى لكسب كل المبتعدين عن طوائفهم أو الغاضبين على أوطانهم ، ومن الطبيعي أن نناقش مواقف هؤلاء بكل صراحة ووضوح . لكن ، ليس من الطبيعي أن تحسب هذه الولاءات كجزء من مكوّنات المذهب ، وأن يلحق عارها ببقية الأتباع..
إنني هنا لا أطالب بعدم مناقشة الخلافات المذهبية والفكرية ، ولا أميل إلى السكوت السلبي عنها ، بل على العكس ، أطالب بفتح جميع الملفات ، وبتحرير جميع مسائل الخلاف ، وأن يستمر الحوار العلمي حول كل ذلك بلا توجس أو تخوف ، وأن تشترك في ذلك جميع الأطراف .
لكن ، عندما يتم ذلك ، لابد أن يتم في إطار فكري خالص ، ومن خلال منابر إعلامية تتمتع بالحد الأدنى من الحياد . لايصح أن يتم هذا النقاش الفكري والديني حول تلك المسائل في إعلاميات متطرفة ، إعلاميات موجهة . كما لايصح أن يتم ذلك في سياق سياسي محتقن ، وأن يستغل الغلاة المتطرفون ذلك من أجل الترويج لمقولاتهم ، ومن أجل تثبيت أقدامهم في واقعنا ؛ بعد أن تزعزعت مواقعهم واضطربت مواقفهم ؛ نتيجة عشر سنوات كاملة من معاناة المجتمعات الإسلامية منهم ، وإدراكها أنهم (= غلاة التقليدية) المسؤولون عن بزوغ ظاهرة التطرف والإرهاب .