معرفة النظام الطائفي والتعرّف إلى معارضته
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
احمد جابر
النظام الطائفي اللبناني "عميد" الأنظمة العربية، والأرسخ قدماً بين أقرانه، يشهد لثباته عمره الكياني الطويل، وتؤكده قدراته على التحوّل زمن العواصف السياسية، التي رافقت النشأة اللبنانية الحديثة.
واقع الحال العربي الراهن، يضيء الكثير من المعطيات اللبنانية، ففي حين تضع الأزمات السياسية، المتفجرة في دنيا العرب، مصير كل تشكيلة حاكمة على المحك، تظهر التشكيلة اللبنانية "عبقرية" في تجديد صيغ سيطرتها وتحالفاتها وتوازناتها، وفي استبدال خطبها وولاءاتها، وكل ما من شأنه أن يعيد تحصين السيطرة الطائفية على مقدرات "الوطن" اللبناني، وضخ الحياة الإضافية في عروقها الآبدة. لكن الجديد، الذي يقدم عليه النظام اللبناني، ليس حديثاً أو حداثة، بل هو تعميق للتقادم وإيغال في القدم، وتمادٍ في نبش الموروث البالي. جديد النظام قديمه، لأن ديمومته تعتاش على القديم وعلى جعله قدراً لبنانياً، يهتز الكيان خارج أحكامه. حصاد التجديد الطائفي هذا، "قمح" قلق طائفي دائم، فالعين تظل مسمّرة على ميزان التوزيع الريعي السياسي اليومي، مخافة اختلاله، والحصاد أيضاً، إقلاق أهلي مستمر، لأن مطلب عدالة التوزيع، يظل سيف احتراب غنائمي مصلت على رقاب الجميع.
تعرض النظام الحالي إلى هجمات معارضة تصدت لمحاولة إصلاحه، لكنه صمد في وجه تحليلاتها، وفي مواجهة قواها. أوصاف تحليلية سيقت في معرض تفكيك نظرية السلطة السياسية، لفهمها ولاقتراح بدائلها، لأن الأمر يبدأ من الفهم أولاً، لتكون سبل التغيير واضحة، وشعاراتها حقيقية ومفهومة. لم تسفّه السنوات الطوال، كل النظريات التي غطت فترة السبعينيات من القرن الماضي، بل إن كماً من الوقائع عاد فأنصف الأفكار وأهلها، ليس بمقياس الدقة الدائمة، للقوى وللنظرية، بل بمقياس صحة اتجاه البوصلة السياسية، التي صوبت على ضرورة التخلص من الطبيعة السياسية للنظام، المحتمي بغطاء الطائفية، والمدافع عن توطينها في البيئة الوطنية.
كلام من قبيل أن النظام هو تعبير عن تحالف الإقطاع السياسي "والبورجوازية" اللبنانية، لم يفقد كل معانيه، ومثله الحديث عن "طغمة مالية" تابعة، وسوى ذلك من المقاربات الفكرية. لعل أهم ما في الكلام السابق، قدرته على الانتشار فوق رقعة اجتماعية واسعة، من خلال حمله لمطالب وهموم معيشية وسياسية، فيها الداخلي الداخلي، والداخلي الخارجي، وفيها كل ما يعيد تعريف لبنان تعريفاً مادياً ملموساً، يخرجه من دائرة الأسطورة الفينيقية، ومن دوائر التعريفات المنتسبة إلى "بياض الثلج والأحمر الأرجواني".
بالقياس إلى القديم، الذي ضجّ قولاً وممارسة ميدانية، يظهر الحاضر فقراً، إن لم نقل قحطاً على مستوى تحليل "البناء الفوقي" للنظام، وعلى مستوى معاينة قاعدته "المادية التحتية". ينعكس هذا على القوى السياسية التي تدعي السعي إلى الجديد، وتحجم عن فتح أبواب الأسئلة والقضايا الكفيلة بالوصول إليه.
ولأننا في شهر نيسان، الذي يؤرخ بالثالث عشر منه (1975)، لانفجار الحرب الأهلية اللبنانية، فإننا نقف بعد عقود أمام سؤال: ماذا عن النظام الذي ما زال مستمراً، على طائفيته؟ وماذا عن معارضات هذا النظام، التي فقدت زخم قوتها الاعتراضية؟ ثمة كثير من الأسئلة الأخرى، لكن الأمر يتطلب أولاً تحديد الذات المعارضة، فكراً ومواقع وممارسة، وتحديد الآخر، الذي هو النظام، قوة وضعفاً وإيديولوجيا وعوامل استمرار. المعرفة شرط لازم، لأن المتداول اليوم، لا يصدر متطابقاً مع واقع حال المعارضات (إن وجدت)، ولا يعبر عن حقيقة النظام، الموجود فعلاً. طرفا المعادلة يستعيران من الماضي ما ليس من مقتنياتهما الراهنة. المعارضة تستعيد شعاراتها محسومة منها قواها، وناقصة منها معرفتها بالمصير الذي آلت إليه هذه القوى، والنظام يكرر إعلان ديموقراطيته ومعنى حرياته وفرادة كيانه، فيما هو ينتسب إلى أعلى أشكال "الدكتاتورية الناعمة".
عليه، يجب أن يخرج من بين جمهور الترداد الحالي، من يستفهم من المعارضة عن واقع الطبقة العاملة ومعناها، وعن العمال الزراعيين والفلاحين والحركة الطلابية والمثقفين، وعن التحالف الحالي الذي يتحكم بالمصير الوطني اللبناني، ويجب الاستفهام أيضاً عن مغزى التراجع الذي أصاب المعارضة في كل هذه المواقع، وعن أسبابه. في الوقت ذاته، يجب أن يطال الاستفهام "منظري" النظام القائم، عن حال البورجوازية اللبنانية، وعن مضمونها أيضاً، وأن يطلب فك لغز الليبرالية المحلية، وتعبيراتها الاجتماعية، وصلة الرحم التي تربطها بغيرها من الليبراليات، أو مسافة الانقطاع التي تبعدها عنها. الخلاصة من كل ذلك. يتضمنها سؤال ذو شقين: ما طبيعة النظام الطائفي اليوم؟ وما طبائع معارضته الممكنة؟ هذا حتى يمكن الانتقال بعدها إلى سؤال: "ما العمل؟" الذي تستحضره كل الأدبيات الاعتراضية.
كي لا نغض البصر عن بعض الأصوات المرتفعة اليوم، نتوقف أمام "صوتين": الأول ذاك المنادي بإسقاط النظام الطائفي، لنقول معه بإيجاز، إن للصوت أصداءه الاستطرادية في كل حنايا القضايا الوطنية، لذلك لا بد من إخراج النقاش من دائرة الاستقطاب الحالي، وجرّ المتناقشين إلى رقعة المسائل التي لا يرغب "النظاميون" في مناقشتها.
أما الصوت الثاني، فذلك الذي يرتفع من بين أبناء الحكم الطائفي، والذي يجب أن يقال له بإسهاب، إن الفساد السياسي الذي يمارسه الجميع هو أصل كل فساد، وإن عباءة الطائفية تحمي كل الفاسدين والمفسدين، وإن الانتقائية ليست سياسة، ففي مجال نقض الطائفية والطائفيين "كلكم عند العرب صابون".