جريدة الجرائد

الإصلاح ليس عرضاً مفتوحاً!

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

علي الظفيري

هل صحيح أن زين العابدين بن علي قد تم طرده من بلاده شرّ طردة، وأن جهازه الأمني القمعي سقط بالكامل، وأصبح التونسي "العادي" وغير المعارض يتحدى اليوم أكبر سلطة أمنية وسياسية في البلاد!، التونسي الذي كانت أجهزة المباحث والمخابرات تحصي حركاته وأنفاسه، هل فعلا تخلص من إرث الديكتاتورية التي حكمته عقوداً طويلة؟، وهل يعقل أن محمد حسني مبارك يقبع الآن في السجن!، ويحقق معه ومع أولاده وأركان حكمه الأشداء "مواطن مصري" برتبة مدعي عام أو قاضي تحقيق!، وأن مبنى جهاز أمن الدولة المصري الأقوى والأعنف والأقسى أصبح مباحا للناس يدخلون فيه ويعبثون بمحتوياته ويطاردون رجاله ويطالبون بمحاكمتهم!.
الإجابة على التساؤلات أعلاه بسيطة وصادمة وتتلخص في كلمة واحدة هي نعم!!، كل هذا صحيح، وقد شاهده الناس عبر القنوات الفضائية وسمعوه في الإذاعات وقرؤوه في الصحف، الأطفال والشباب والكهول، العرب والعجم، الأميون والمتعلمون، وحدهم القابعون في وزارات الداخلية لم ينتبهوا له، تصرفوا وكأن شيئا لم يحدث، يطرحون تساؤلاتهم الصباحية كالمعتاد: من اعتقلنا حتى الآن، ومن سنعتقل!.
الإنكار عند علماء النفس يشير إلى العملية الدفاعية التي يقوم الإنسان من خلالها باستحضار عناصر مكبوتة في اللاوعي، وبصياغتها وإعطائها شكلاً، وذلك لرفضها أو نفيها، بمعنى آخر هو سلوك يدل على حجم الصدمة الكبيرة التي يتعرض لها المرء ويتبعها نوع من التجاهل للحقائق الماثلة أمامه، هكذا تحديدا يتصرف وزير الداخلية العربي هذه الأيام، يستيقظ من نومه متأخرا "معكر" المزاج غالبا، يطرد كل ما شاهده من كوابيس، ويعود بشكل تلقائي لمرحلة ما قبل حرق البوعزيزي نفسه، إلى زمن ما قبل الرابع عشر من يناير، يطلب كشوف المتمردين على سلطته، ويقبل بأول نصيحة "غبية" من مستشاره لقمعهم عبر مختلف الأساليب، وبما أن كائنا غريبا وطارئا على حياته قد ظهر مؤخرا يسمى الشبكات الاجتماعية (تويتر، فيس بوك) فإنه يتلقى قائمة أخرى من مستشار آخر له "أكثر غباءً" في الغالب، قائمة بالمواطنين الذين قدحوا في سلطته الموقرة، لتنطلق بعدها الحملات الالكترونية من قسم الدعاية المغرض في الناحية الأخرى من المكتب، فيزدهر نشاط أقسام الأمن الالكتروني، وتجد الصحافة الأمنية ما تفعله وتنشغل به لأيام!.
حتى هذه اللحظة لم تستوعب الأنظمة الحاكمة أو -ما تبقى منها- الطريقة المثلى لمواجهة هذا البركان الغاضب للجماهير العربية، لم تتمكن من إدراك كلمة السر المطلوبة للدخول في عالم المستقبل العربي، وهذا ليس نابعا من جهلها أو قلة اطلاعها كما يتوهم البعض، بل من التركيبة العصية على التغيير والتي تشكلت عبر عقود من الحكم المطلق، ما أوحى لها بحق الملكية الكاملة لهذه الأوطان وشعوبها ومقدراتها ومستقبلها، تضخمت ذاتها الحاكمة بشكل حجب بينها وبين استيعاب هذا التحول الكبير والمفاجئ في السلوك الشعبي، وحجم المطالب الجماهيرية بالحقوق الكاملة للمواطن لا ينقصها شيء، فهذا عسير على من قضى حياته الآمر الناهي في شؤون العباد والبلاد!، إن معظم الثورات العربية انطلقت بشعار الإصلاح، وما هي إلا أيام أو أسابيع محدودة حتى أصبح شعار إسقاط الأنظمة الشعار السائد، ومعظمها سقط أو على وشك السقوط، لم يقرأ أحد من سكان وزارات الداخلية العرب هذا التحول السريع، تركزت الجهود المبذولة على فحص النواقص في سلوك المجابهة الأمنية لكل نظام ومحاولة تطويره، يقول الأمنيون: ربما لم يعتقلوا أو يعذبوا أو يقمعوا كما يجب!!، وتنطلق بعدها حفلة من العبث الفكري والإداري لحفنة من الجهلة لا يصلحون لإدارة منازلهم فكيف بأوطان وأمم طامحة!.
الاعتقاد السائد لدى السلطة بأن الإصلاح مشروع طويل ويمكن استهلاكه كعنوان لسنين طويلة في الحكم وهمٌ كبير، الإصلاح اليوم حاجة ملحة وماسة، ملامحه وتفاصيله وإجراءاته وأهدافه واضحة تماما، والتأخر والمماطلة والأموال المؤقتة تزيد من المشاكل وتعقدها، وما هو مقبول اليوم وما كان مقبولا بالأمس، لن يكون مقبولا لدى الجماهير غدا، سترفضه وتطالب بالمزيد، الإصلاح يا سادة ليس عرضا مفتوحا إلى الأبد!.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف