في بعض إشكالات الفكر السياسي لدى الإسلاميين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
وائل مرزا
"دولة مدنية يطالب بها العلمانيون هي دولة يطالب بها الإسلاميون، كل ما في الأمر أن هنالك تقليدا عند العلمانيين وهنالك تجديد عند الإسلاميين". بهذه الطريقة (المبسطة) عبر أحد الكتاب من ذوي التوجه الإسلامي عن رؤيته لطبيعة النظام السياسي المطلوب الذي يكثر الحديث عنه في دول مثل تونس ومصر هذه الأيام.
ذكرنا سابقا أنه لا مفر من ثورة فكرية تستوعب الواقع العربي الراهن، وتطرح أسئلة جذرية كبرى تتعلق بكيفية وصولنا إليه، وماهية تغيراته الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتحاول أن تستقرئ مآلاته الممكنة، وتطرح بشكل منهجي أساليب ومداخل التعامل معه.
وذكرنا أيضا أن الإسلاميين كانوا ولا يزالون وسيبقون مكونا رئيسا من مكونات المجتمع العربي المعاصر. وأنهم جزء من الحراك الكبير الذي يجري في جميع أنحائه.
من هنا، فنحن مع جميع محاولات العمل في هذه الساحة، خاصة في مجال الفكر السياسي المنهجي الذي يتميز بوجود فقر شديد فيما يتعلق به عند الغالبية العظمى من الإسلاميين، وهو فقر يعتبر محورا أساسيا من محاور (أزمة) الفهم النظري والفعالية العملية المتجذرة في كثير من دوائرهم. والغريب في الأمر أن هناك نوعا من الزهد الشديد في تلك الدوائر لتناول قضية الفكر السياسي بشكل علمي ومنهجي، وأن فيها نوعا من الإصرار على التعامل مع الواقع بناء على عقلية (حركية) بحتة، سواء كانت حركية حزبية تأخذ بعض الأشكال المعروفة المعاصرة، أو حركية تقليدية تتمثل في بعض المجموعات التي تتمحور حول بعض العلماء ورجال الدين.
وربما كان من دلائل هذا الزهد وعلاماته الأساسية عدم التفكير في توجيه كوادرهم للتخصص في علوم السياسة والاجتماع، والإعراض عن الاهتمام حتى ببعض الأدبيات القليلة التي صدرت وتصدر حول الموضوع في أوساطهم. ومن هذه الأدبيات على سبيل المثال كتاب بعنوان (السياسي، مفاهيم ومواقف) صدرت طبعته الأولى في عام 1990م، قام بإعداده وجمع مادته الدكتور أحمد بن يوسف، ويمكن للمفارقة استخدام بعض النقولات منه بتصرف بسيط، للإشارة إلى جوانب أزمة الفكر السياسي التي نتحدث عنها، لأنها نقولات معبرة جدا، ولا حاجة لإعادة طرحها بكلمات أخرى ما دامت تؤدي الغرض المطلوب.
فعلى صعيد المنطلقات والمبادئ، يذكر الكتاب أن بعض الشباب بدؤوا يهتمون بالجانب السياسي "لكن اهتماماتهم كثيرا ما تأتي فجة غير ناضجة. فأصول العمل السياسي ليست كأصول العقيدة، وإنما هي مجموعة متغيرات تتأثر سلبا وإيجابا بظروف وعوامل كثيرة، فالموقف السياسي تحكمه المصالح الاقتصادية والقواعد الصاروخية، وبعض المسلمين يرغب في أن يبني قواعد أصولية للسياسة الدولية كقواعد أصول الفقه"! الأمر الذي يجعل توقعاته وتحليلاته "تأتي فجة سطحية غير ناضجة". وفي نفس المجال ينقل الكتاب عن هشام الطاهر أن الإسلاميين "واجهوا المعارك السابقة ببيان أصول الدين واستثارة الحمية التاريخية والإعراض عن التفاصيل وعن مواجهة بعض القضايا الحقيقية القائمة". ويتابع موضحا: "لقد أنتج الفكر الإسلامي في خضم معاركه السابقة أدبا يجنح إلى التجريد أكثر من الواقعية، ويهرب إلى المثالية معرضا عن لحظته التاريخية المعاصرة، ويبحث عن حججه في صفحات الأولين وسيرهم دون تمييز ويواجه القضايا الأولية البسيطة التي عرضت للدعوة" مؤكدا أن الفكر السياسي الإسلامي "قلما انصب على واقعنا المعاصر بالتحديد، يشخص مشكلاته ويعالجها" خالصا في النهاية إلى أن هذا المنهج "لم يعد كافيا ولا ناجعا لخوض المعركة الجديدة، لأنه يجعل المشروع الإسلامي، رغم كل النوايا الطيبة، خارج السياق التاريخي للبشرية والعصر، فهو لا يعالج قضاياه ولا يحل مشاكله، وهنا مكمن التحدي الحقيقي لإسلاميي هذا الجيل".
وفي معرض الحديث عن ممارسات الإسلاميين، ينقل الكتاب عن الدكتور (ليث راجي) أن تلك الممارسات تستند "على المقاييس الفكرية فقط، بحيث أصبحت الشعارات المبدئية مادة استهلاكية بديلة عن الحسابات الموضوعية وصار ترديدها غذاء يوميا بديلا عن البرامج العملية والواقعية". ثم يوضح الكاتب بعد سطور أن "الأصالة في قراءة المبادئ لا تؤدي بالضرورة إلى الأصالة في قراءة الواقع"، قائلا أخيرا في معرض التعليق على تلك الممارسات: "وإذا ترك الإسلاميون مدرسة الحساب وأخلوا بقراءة الواقع وسننه وأخطؤوا في حساباتهم، فستبقى أهدافهم نظرية غير ممكنة التحقيق وشعاراتهم فارغة. وقد تفسر ظاهرة غياب الحسابات الموضوعية والعملية أحيانا حالة قلة النتائج عند الإسلاميين رغم حجم التضحيات والجهود المبذولة".
إن إيراد هذه النقولات لا يكفي بطبيعة الحال لتغطية موضوع علاقة الإسلاميين بالفكر السياسي في صورته العلمية والمنهجية، ولكن الهدف الأساسي الذي يمكن تحقيقه أصلا في هذا المقام الضيق هو المساهمة في فتح هذا الملف، وهو ملف يجب أن يكون مثار اهتمام ودراسة وحوار على أكثر من صعيد.
ونحن وإن كنا نعتقد أن في تلك المقتطفات إشارات هامة جدا فيما يتعلق بهذا الموضوع، وبأن مجرد الانتباه إليها ووعيها والعمل بمقتضاها سيغير كثيرا من التصورات ووسائل العمل والحركة لدى الكثيرين، بيد أننا لا نملك إلا أن نؤكد على حجم المفارقة التي تظهر حين نعلم أن هذه الإشارات إنما تمثل فقط ألف باء التفكير السياسي العلمي والمنهجي المعاصر، وأن وراءها الكثير الكثير مما ينبغي الإحاطة به، والانطلاق منه في التعامل مع هذا العالم. وإن كانت هناك عبرة ما من وجود تلك المفارقة، فربما تتمثل في أنها تفسر كثيرا من خيبات عالمنا العربي بإسلامييه وبغيرهم، في أكثر من مجال، وعلى أكثر من صعيد.