ليبيا القذافي... خيمة الأسرار الكئيبة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
باري بيتش
زرت مؤخراً ما تبقى من "كتيبة فضيل"، وهي عبارة عن مجمع كبير في وسط بنغازي يمثل، باستخدام وصف ألطف، موطن ميليشيات القذافي في بنغازي. فقد نصحني عدد من الأشخاص الذين التقيت بهم أن أذهب لزيارة المكان لكي يتولد لديّ فهم أفضل لما كانت عليه الحياة إبان نظام القذافي. "فضيل" اسم ارتبط بحرب الاستقلال ضد الإيطاليين، فقد كان بطلاً بالنسبة لليبيين، ونفس الأشخاص أخبروني عن مدى شعورهم بالاشمئزاز لكون هذا الاسم يرتبط الآن بأسوأ الأعمال المشينة لنظام القذافي. فقد كان هذا موقع الخوف والرهبة في بنغازي، وليس كل من دخله معتقلاً عاد لأهله فيما بعد.
المجمع حالياً عبارة عن مجموعة من المباني المحترقة الممتدة على مساحة 5 كيلومترات مربعة. تعرضت بعض مباني المجمع للحريق جزئياً على أيدي رجال القذافي عندما اضطروا لمغادرته، وتعرضت المباني للمزيد من الدمار على أيدي مواطنين ليبيين اختاروا هذا المكان أكثر من غيره للتعبير عن رفضهم للنظام القديم. فقد استخدموا الأصباغ لكتابة عبارات على الجدران في كل مكان تعبيراً عن ازدرائهم بالقذافي (مستخدمين أحياناً عبارات بذيئة لا يمكن تكرارها هنا!) إلى جانب رسوم كاريكاتورية محزنة تقطع القلب وطريفة جداً على حد سواء. قضيت بعض الوقت أقرأ كلمات أكثر ما تعبّر عنه حالة الارتياح التي يشعر بها المواطنون الذين استطاعوا أخيراً قول ما يريدون دون خوف من الاعتقال.
شاهدت كثيراً من الآخرين في المجمع، ممن تواجدوا هناك بروح طيبة مثلي، لكنهم كانوا يتجولون في مكان لطالما دعوا ربهم بألا يدخلوه مرة أخرى، وهم يتحدثون عن تجاربهم الشخصية التي مروا بها على يد القذافي. لا أعتقد أن أحداً ممن التقيت بهم هنا في بنغازي لا يعرف أحداً تعرض للسجن أو ما هو أسوأ من ذلك على يد نظام القذافي.
وفي داخل المباني، وفي الزنازين تحت الأرض، كانت الأجواء أكثر كآبة وشؤماً. فقد بدت المداخل وكأنها أبواب ملجأ عسكري تحت الأرض، وبدا من الصعب معرفة ما كان يوجد فيها لأن الحجرات قد حُرقت. ووجد هناك عدد من العائلات، وعندما سألت عن سبب قدومهم، لم يكن أي منهم لديه سبب وجيه. فقد قالوا إن قدومهم كان لمجرد إحساسهم بأنهم رغبوا بأن يفعلوا ذلك. أعتقد بأنهم كانوا بحاجة لأن يشاهدوا بأم أعينهم هذا التدمير الفعلي لنظام القذافي في بنغازي. وعندما هممت بالمغادرة قال لي أحدهم بأن 53 معتقلاً كانوا موجودين في هذه الزنازين عندما اندلعت الثورة. وقال بأن واحداً فقط نجا بحياته. والباقون إما تم إطلاق الرصاص عليهم أو أُحرقوا أحياء على أيدي القوات التي انسحبت من بنغازي. من الصعب أن يصدق العقل بأن كل ذلك حدث قبل شهرين وحسب.
بعد ذلك عبرنا بالسيارة خلال ساحة كبيرة وسط المجمع، حيث ألقى القذافي آخر كلمة له في بنغازي قبل بضع سنوات، وقد حُفرت أجزاء منها. فقد قال لي المواطنون هنا بأن أعداداً لا تحصى من الجثث قد دفنت في هذه الساحة، وهم يأتون إلى هنا الآن لمحاولة إيجاد رفات أحبائهم. وبالنظر لهذا التاريخ الفظيع، فقد يندهش البعض بأن المستقبل يسيطر على العقول هنا أكثر من التفكير بالمعاقبة أو الانتقام.
آخر وقفة في جولتي كانت في فيلا كبيرة لا تبعد أكثر من 50 متراً عن الزنازين تحت الأرض. كانت تلك واحدة من مقار سكن القذافي في بنغازي. لم يتبق فيها شيء يذكر. وقد أضرمت فيها النيران كغيرها من المباني. لكن اتضح لي من السلالم الفخمة وما تبقى من السونا (حجرة البخار) بأنها كانت بفخامة قصر. ولدى مغادرتي لفتت نظري عبارة "قلت خيمة" مكتوبة على الجدار.
وإذا ما سألتَ غالبية الناس في العالم عما يعرفوه عن ليبيا قبل اندلاع الثورة، فإن الكثيرين منهم سيذكرون القائد غريب الأطوار الذي سافر إلى دول العالم مصطحبا خيامه وزاعماً بأنه يعيش عيشة بدوي فقير، وهو ما جعل غالبية الليبيين يشعرون بالحرج. لكن من واقع ما شاهدت وسمعت هنا، لم تكن تلك إلا صورة كاذبة أخرى صورها النظام. فالقذافي لم يعِش أبداً في خيمة. بل كان يعيش حياة رغد ورفاهية يحرّمها على شعبه، مثله في ذلك مثل أي دكتاتور آخر في العالم.
غادرت المجمع الأمني، وأنا أعتقد بأنه ربما في هذا البلد الكثير من الأسرار الكئيبة، قد يستغرق بعضها سنوات قبل أن تنكشف. آمل أن تتمكن العائلات التي فقدت أحباء لها أن يأتي يوم يجدون فيه رفات أحبائهم وينظموا لهم جنازات لائقة لدفنهم. لكني استنتجت كذلك، بينما كنت أشاهد الشوارع المزدحمة من نافذة سيارتي، أن ليبيا لن ترجع إلى ما كانت عليه. فالليبيون الذين تنفسوا طعم الحرية في بنغازي لا يمكنهم أبداً العودة للعيش تحت نظام القذافي أو أي نظام وحشي مثله. وحتى المقربون من النظام، والذين عاشوا حياة جيدة نسبياً في ليبيا خلال السنوات الأربعين الماضية، لن يستطيعوا نسيان (ناهيك عن غفران) كيف أن القذافي وقواته هاجموا، ومازالوا يهاجمون، مدنيين في شوارعهم وفي بيوتهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من البعثة الخاصة للمملكة المتحدة في بنغازي