جريدة الجرائد

الإعلام والإعتام والجرح الليبي

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

حصة لوتاه

يظن البعض أن دور الإعلام هو أن يعلمهم بالأشياء ويجلي الحقائق أمامهم، كما يفصح بذلك مسماه، لا أن يتجلى أكثر في الإعتام، والذي تظهر فيه صورة وجهه الآخر الذي نراه عليه كثيرا هذه الأيام. ومن يريد أن يقترب أكثر من هذا التصور، عليه أن ينظر في الصور التي تنقلها وسائل الإعلام المرئية عن ليبيا، أو عن ما يدور في ليبيا هذه الأيام.

إن الصور التي تأتي بها وسائل الإعلام، والمرئية منها تحديدا، عما يدور في ليبيا اليوم، تكاد تكون في بعض جوانبها مركزة على معاناة النازحين، وبعض الشيء على أحاديث بعض السياسيين ممن يشكلون فريق المعارضة، أو بعض السياسيين الليبيين، أو بعض المحللين، أما في مجملها فتركز على صور القتال الدائر هناك، وأي صور للقتال؛ قاذفات القنابل التابعة لحلف الناتو وهي تمزق أرض ليبيا كي تشق وتمهد فيها دربها نحو منابع نفطها، فيصبح واقعا تحت قبضتها، كما فعلوا بالعراق، صور القتال الدائر بين أشقاء يوسف وهم يقتتلون بقسوة غير عادية، محاولين الوصول إلى عرش قلب أبيهم، العرش الذي لم ولن يصلوه. صورة قابيل الذي لا يشج رأس أخيه بحجر هذه المرة، بل بقذيفة "آر بي جي"، يحمل مدفعها على كتفه ويطلقه على إخوة كثيرين، وليس على هابيل وحده هذه المرة.

هذه هي الصور التي ينقلها لنا الإعلام كل يوم، عما هو مفترض أنه يحدث في ليبيا. وهذه الصور، وإن كانت ترينا بعض ما يدور هناك، فهي أيضاً تكشف دور الإعلام في كونه لا يكشف كل شيء، بل يلعب دور الستار أو الحجاب، ليغطي بذلك ما لا يريد للبشر العادي المتابع له، الوصول إليه.

إن الإعلام هنا لا ينقل كامل الصورة، بل أجزاء منها، ولا ينقلها بالشكل الذي يجعلنا نصل إلى موقف محدد مما نرى، بناء على ما اتضح أمامنا، بل هو يحاول، في ما يعرضه علينا، أن يجعلنا نصل إلى موقف متذبذب، أي أن يصير موقفنا مما نرى مشتتا، وغير محدد المعالم، وهو في الغالب يسعى بهذا إلى يجعلنا حياديين تجاه ما نرى، وهذا هو أقصى ما يراد الوصول إليه من قبل وسائل الإعلام، أو بالأحرى ممن يشتغلون على وسائل الإعلام المتحيزة تحديدا، حين يكون الأمر متعلقا بالمعاناة البشرية التي تسببها الحروب، والتي إن كشفت في حقيقتها، ستجعل من يقومون بها يقفون عرايا أمام الناس، مواجهين بكل الجرائم التي يرتكبونها، أو ارتكبوها في حق البشرية.

إن الذي لا يكشفه الإعلام حول ما يجري في ليبيا اليوم، على سبيل المثال، هو الصورة الحقيقية، صورة الناس العاديين وهم يعيشون داخل كل هذا الجحيم، الذي تدخلهم فيه الحرب التي تطحنهم كل يوم على أرضهم. ومن هذه الصور، صورة رجل دس كسرة خبز في جيب صدريته لأطفاله، خوف أن يأتي نهار لا يستطيع أن يوفر لهم فيه رغيف خبز، وحين أطل برأسه من نافذة بيته ليرى إن كانت النيران التي تتطاير من حوله قد ابتعدت أو هدأت قليلا، تلقفته قنبلة شقت صدره وتركت كسرة خبزه، مع صدره المليء حبا، مضرجين بالدماء. صورة أجساد الأمهات وهن يستعملنها كسواتر لأجساد أبنائهن، الذين تشق صرخات الفزع من الحال الذي هم عليه صدورهم وصدور أمهاتهم.

إن مشهد النوافذ المحطمة والمحروقة التي ينقلها لنا بعض وسائل الإعلام في البيوت الليبية، يواجهنا بإدراك كيف أن الذي كان في يوم من الأيام مصدرا للنور وللنسائم، ولحوارات الجيران والعابرين في الشوارع، يصبح اليوم مصدرا للموت وللفناء في أراضي الحروب، فأي من هذه الذكريات سيبقى لصيقا، ولفترة طويلة، بقلوب أصحابها؟ كيف سيستعيد ضحايا هذه الحروب كون أن النافذة تأتي بضوء الشمس، أو أنها حين الهجير تأتي بنسمة باردة، أو تأتي بكلمات من جار أو من جارة، لا أنها تأتي بالموت. أظن ان زمنا طويلا ستحتاجه نوافذ ليبيا، ونوافذ بلدان أخرى، كي ترمم وجودها وصورتها في أذهان أهلها، فلا تجعلهم متوارين بعيدا عنها، أو يمشون متواربين حين المرور قريبا منها.

صورة أخرى تأتي في نفوسنا الكارهة للحرب، عن أم كانت تسرّح شعر ابنتها حين سقطت عليهما قذيفة فمزقتهما، وبقي شعر البنت عالقا في أصابع الأم التي كانت تتخيلها قبل قليل وهي تسرحها يوم عرسها.

كل هذه الصور يخفيها الإعلام عن مشاهديه، في دور يحاول فيه أن لا تنكشف الصور التي قد تجعل الناس قريبي التماس مع ما يرون، وذلك في محاولة لتحييد عواطفهم، فلا يعودوا ينفعلوا للمواقف شديدة القسوة التي يرون البشر العادي يقع فيها، ولا أن يشعروا بكمية المعاناة التي يعيشها أولئك البشر، وذلك خوفا ممن أن تنقلب المواقف ضد من يقومون بهذه الحروب. وهذا هو ما يسمى حقيقة بالإعلام الموجه، وهو الإعلام الذي يدرس رسالته بدقة ويعرف ما يريد من الصور التي يبثها، وأي نوع من الأحاسيس ستخلفه.

ترى أي جرح جديد ينفتح الآن في جسد أمتنا؟ وكم من السنين سيحتاج الشعب الليبي للتداوي منه ومن آثاره التي سيتركها في نفوسهم؟ والتي تقول لنا، من بين ما تقوله، إن جسد أخيك حين تجرحه يبقى دهورا طويلة حتى يستطيع الالتئام، أو يوقف نزفه، وعيون أطفال أخيك الذي قتلته تبقى محدقة فيك حتى وأنت نائم وغارق في أحلامك. وكل هذه جروح لا تندمل سريعا، وتحتاج للكثير من الترياق والمسح عليها، حتى يخف قليلا ألمها، فلا تشتغلوا على فتحها وإحداثها.

بجانب ذلك، إن كل هذه الصور التي تأتينا، أو لا تأتينا من ليبيا، تجعلنا نصاب بالخوف على ما نحب ومن نحب، وذلك حين نسمع صوت وتيرة الحرب يرتفع ويقترب من حولنا، صوت من يحاولون أن يشعلوا نيرانا بقي آباؤنا وأجدادنا زمنا طويلا يبردونها بمياه محبتهم وحكمتهم، ويأتي اليوم من يحاول أن يذكيها أو أن يشعلها، ونحن لا نملك تجاههم إلا أن نلهج بالدعاء، وأن نقول في قلوبنا التي تخاف على أبنائها وأهلها وأرضها "كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله"، فشاركوني هذا الدعاء، كي لا نصير نحن أيضاً في يوم من الأيام صورة يخفي الإعتام جرحها وصرخات أطفالها.


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
نحن الواقفون
متابع -

نحن الواقفون على خطوط النار , احرقنا مراكبنا وعانقنا بنادقنا ولن نترك الخندق حتى يمر الليل, هذا ما قاله محمود درويش يوما , ويقوله ثوار ليبيا الان, هولاء الرجال الشجعان الذين يحاربون قوة ظالمة جبارة لا لشيء ولكن لانهم رجال ولدو كي يعيشوا بكرامة , لا ان يستهزء بهم رجل مجنون ويتحكم بمصائرهم, اما الاخوة الذين تتحدثين عنهم فليس لهم من بد غير حمل السلاح حتى النهاية.