جريدة الجرائد

بن لادن في الخرطوم.. أسرار ما وراء الجدار

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

عبد المطلب صديق:


ما يدعوني للإدلاء بهذه الشهادة هو رصيدي من العمل الصحفي الميداني خلال الفترة التي استقر فيها زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في الخرطوم، ورحلة الرجل الممتدة منذ انطلاقة عمله الدعوي والجهادي والاستثماري في الخرطوم 1991 - 1996، وتلك كانت من أخصب سنوات عملي الصحفي، وقد شهدت كيف أجرى زميلان لي بالصحيفة التي كنت أعمل بها، أخطر حوار صحفي مع أسامة بن لادن على الرغم من أنه لم يعلن يومها الجهاد المقدس بعد، بل كان التنظيم يومها في مرحلة التكوين.
لكن الفترة الأكثر إثارة في حياة الرجل هي التي أعقبت خروجه من الخرطوم وحتى مقتله في ابت أباد بالقرب من إسلام أباد، على أيدي القوة الأمريكية الخاصة لمكافحة الإرهاب.. مسيرة حياة الرجل مليئة بالتحديات والعبر والمحطات المثيرة، كيف لا ؟ وهو الذي شغل الناس وأجهزة المخابرات العالمية، كما تعقبته التنظيمات العسكرية الحكومية والجهادية المختلفة لكنها جميعاً لم تظفر بالرجل ولم توجه له الطعنة النجلاء التي كان يخشاها منذ سنوات طويلة.
في عام 1990 بدأت هجرة التيارات الإسلامية إلى الخرطوم، بدعوة مباشرة من التنظيم العالمي للإخوان المسلمين فقد كانت الخرطوم هي العاصمة الجديدة لدولة الخلافة الإسلامية الجديدة ولم يتوقف زعيم الحركة الإسلامية السودانية الدكتور حسن الترابي عن دعوة رموز التنظيمات الإسلامية المقاتلة في كافة دول العالم للحضور إلى الخرطوم، حيث البيئة الأمنية المناسبة لعقد الاجتماعات ووضع المخططات وتحديد موعد العمليات السياسية الكبرى لهذه الخلايا السياسية النشطة.
وابتدع الدكتور حسن الترابي - الذي عاش مولعاً بحب الزعامة وقيادة المبادرات السياسية المؤثرة - فكرة تأسيس المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي، فأشرف بصفته الشخصية كمرشد ديني للمجموعة العسكرية التي استولت على السلطة على دعوة زعماء التيارات الإسلامية العاملة والنشطة سياسياً وعسكرياً. وفي فبراير من عام 1991 حظيت الخرطوم لأول مرة بزيارة راشد الغنوشي قائد الجماعة الإسلامية في تونس وعباسي مدني وعلي بلحاج في الجزائر وقادة الجهاد الأفغاني من أمثال برهان الدين رباني وحكمتيار وسياف، وكانت دولة المجاهدين الأفغان قد استولت لتوها على السلطة عقب اغتيال بابراك كارميل واندحار القوات السوفييتية على سفوح جبال كابول، وكان انتصار الإسلاميين في الانتخابات الجزائرية قد قدم الدعم المعنوي للإسلاميين ليؤكد لهم قناعتهم التاريخية بقدرتهم على اكتساح صناديق الاقتراع ضد أعتى النظم الديكتاتورية.
في ظل هذا المناخ المشبع بالتفاؤل وفي مطلع عام 1991 قرر قائد تنظيم القاعدة أسامة بن لادن اللجوء إلى السودان تحت مظلة الاستثمار، وبقي في الخرطوم حتى نوفمبر 1996.
الجانب غير المعروف في شخصية بن لادن أنه لم يكن رجال مال وأعمال فحسب أو مجاهد يبذل ماله ونفسه في سبيل الله فقط، بل كان أديباً لغوياً مفوهاً، وكاتباً مبدعاً رقيق العبارة، وشاعراً فحلاً واسع الخيال لطيف العبارة، وأقام مشروعين رئيسيين في السودان أحدهما مشروع زراعي بالنيل الأزرق أطلق عليه اسم وادي العقيق، والآخر بشمال السودان، حيث أوكلت إليه الحكومة تشييد طريق الخرطوم - عطبرة الاستراتيجي، الذي كان أول إنجازات الحكومة الوليدة يومها، وكان حلم الإسلاميين أن يساعدهم بن لادن في تفجير ثروات السودان إلا أن ذلك الحلم لم يتحقق مما دفعهم للجوء إلى الصين وماليزيا فنجحوا في استخراج البترول أو بساط الريح الذي حمل حكومتهم رغم العداء الدولي والإقليمي السافر.
وميول بن لادن الأدبية تبدو أيضا من اختياره لزوجته الثالثة هي أمّ خالد، التي تحمل شهادة الدكتوراه في القواعد العربية، وهي من المدينة، أنجبت لبن لادن ثلاث بنات وابناً واحداً.. ودارت الشكوك حول مشروعات بن لادن حتى أن الصحفيين المناهضين للإنقاذ كانوا يعتقدون بأن مشروع وادي العقيق الزراعي هو المسرح الميداني لتدريب أنصار أسامة بن لادن على الرغم من ان اسم القاعدة لم يتم تداوله على أجهزة الإعلام إلا في عام 1996 بعد أن غادر زعيم التنظيم السودان غاضباً على حكومة البشير عقب طلاق شهير سببه خشية الخرطوم من انتقام أمريكي شرير بعد تزايد التهديدات الأمريكية المستمرة للخرطوم.. حياة بن لادن بالسودان كانت مليئة بالغموض.. والإفادة التالية قدمها الصحفي مجاهد بشير لصحيفة "الرأي العام" وتحوي جانباً مهماً لسيرة الرجل في الخرطوم.
تقول الرواية "عندما كان أسامة بن لادن يسكن حي (الرياض) شرق الخرطوم، في منزل من ثلاثة طوابق، كان يبدأ يومه بصلاة الصبح، قبل أن يستقل سيارته المرسيدس البيضاء في طريقه إلى متابعة شؤون استثماراته في العاصمة، وكان يمضى للبنك العربي في شارع علي عبد اللطيف كل يوم في تمام التاسعة صباحاً، إذ كان يمتلك حساباً هناك، ويعود بعد صلاة الظهر إلى منزله ليتناول الغداء، وكل هذا بحسب أحد جواسيس المخابرات الأمريكية الذين عملوا في الخرطوم حينها".
خطة الاغتيال:
جواسيس أمريكا، كانوا قريبين جداً من بن لادن في ذلك الوقت، مثلما كشف ذلك أكثر من كتاب، منها كتاب (مطاردة الأشباح)، الذي نشرت "الرأي العام" حلقات منه في السابق، فبن لادن في تلك الحقبة لم يكن مسجلاً في خانة العدو رقم واحد للولايات المتحدة الأمريكية، ولم يكن ينظر إليه بصفته الحالية (إرهابياً)، بقدر ما كان يعتبر ثرياً ذا نزعات جهادية، لكن بعض الجواسيس والعملاء الأمريكيين، والغربيين، كانوا يشعرون بخطر الرجل، مما دفع بعضهم لوضع خطة لتصفية أسامة بن لادن في حادث عرضي وسط شوارع الخرطوم، عن طريق متابعته بسيارة من الخلف، واصطدام سيارة أخرى بسيارته المرسيدس على نحو متعمد، لينقض عليه الجواسيس في السيارة الخلفية ويطلقون عليه النار، وهي الخطة التي لم تنفذ.
مرافقو بن لادن وجواسيس أمريكا وجهاً لوجه:
في تلك الفترة، كان رجال المخابرات الأمريكيون وبن لادن ومرافقوه وحراسه يتبادلون المراقبة والمطاردات في شوارع الخرطوم، وكان العملاء والجواسيس الأمريكيون يقيمون أحياناً في منازل بحي الرياض قريباً من بيت بن لادن، ويراقبونه، ويراقبهم مرافقوه بدورهم، دون أن تقع احتكاكات مباشرة بين الجانبين.
الترابي: أسامة كان يصلي معنا في المسجد:
زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن وصل إلى السودان عام 1991م، بعدما عارض وقوف المملكة العربية السعودية مع الكويت والتحالف الدولي ضد الغزو العراقي، ودخل حينها بصفته (مستثمراً)، كما قال عدة مسؤولين سودانيين، وقال د. حسن عبد الله الترابي، الذي دخل بن لادن السودان في الأيام التي كان فيها نافذاً في الإنقاذ، إن أسامة جاء للسودان في بداية التسعينيات لم يكن يحمل أية نوايا جهادية أو عقائدية، وكانت كل جهوده ونواياه متجهة فقط إلى جانب الاستثمار في مجال التشييد والبناء، وهو المجال الذي تخصصت فيه أسرته.. وتابع الترابي في تصريح سابق "لذلك فقد كان طوال فترة إقامته في السودان بعيداً عن الأضواء والسياسة والعمل العام ومنخرطاً في إنشاء الطرق والمشروعات الاستثمارية، ولو أنه ظل موجوداً في السودان لما تورط في العمل ضمن التنظيمات التي تتبنى العنف والقتل".
وأضاف الترابي "أنه لم تجمعه بأسامة بن لادن علاقة مباشرة سوى أن أسامة عندما جاء للسودان كان يصلي في المسجد الذي اعتاد الترابي أن يصلي فيه، وأن الجماعة السلفية في السودان عندما اعتدت على أسامة بن لادن وأرادت قتله كانت تضع الترابي في نفس القائمة التي وضعتها للاغتيالات".
الجاز: بن لادن كان يدير أنشطة مشروعة في السودان:
دخول بن لادن السودان بصفته مستثمراً، أكده أيضاً د. عوض الجاز عندما كان وزيراً للطاقة والتعدين قال فيه "إن بن لادن كان يدير أنشطة استثمارية مشروعة في السودان". وأضاف وهو يتحدث على هامش مؤتمر للطاقة في النمسا "كان بن لادن رجل أعمال، وكان يتمتع بالشفافية ويعمل في العلن.. لم يكن هناك شيء في الخفاء لا من جانبه ولا من جانبنا، ثم غادر البلاد في ذلك الوقت".
خروج بن لادن من السودان، في مايو من عام 1996م، الذي يتردد أنه كان بضغوط سعودية وأمريكية، يعتبره كثيرون مدخل الرجل الحقيقي إلى التشدد، ويطرح بعض الجواسيس الغربيين السؤال على نحو صريح: (هل كان بن لادن سيصبح أخطر إرهابي في العالم لو تركناه يمارس نشاطه الاستثماري في السودان، تحت سمعنا وبصرنا؟)، ففي السودان كان بمقدور بن لادن صرف طاقاته في الأنشطة التجارية والزراعية، وقال الترابي عن انتقال بن لادن لأفغانستان: "هناك لم يكن يستطيع أن يعمل في الاستثمار كما كان يفعل في السودان، لأن أفغانستان ليست بها بنية أساسية، ولا طرق، ولا مجالات للاستثمار.. ليس فيها إلا جبال وشعب مقاتل يعيش بحكم تركيبته في حرب مستمرة.. فإذا أخرج المحتل السوفييتي انقلب ليحارب بعضه بعضاً.. وفي هذه البيئة لم يكن أمام أسامة بن لادن إلا العمل ضمن هذا الإطار والانخراط مع الأفغان في حروبهم والانتقام من أمريكا التي طاردته وطردته من مأواه الآمن في السودان".
أملاك بن لادن في السودان:
بعد طرد بن لادن من السودان، صادرت الحكومة وفقاً لتقرير سابق لصحيفة "الواشنطن بوست" فرساً وثلاثة أحصنة كان يمتلكها بن لادن، ومنزله عالي الأسوار في حي الرياض، وشركة إنشاءات يتردد أنها نفذت غالبية أجزاء الشارع السريع الذي يربط بين الخرطوم، ومدبغة للجلود، ومساحات واسعة من المزارع بمنطقة سوبا.
كان بن لادن وفقاً لـ "واشنطن بوست" دقيقاً جداً في ما يتعلق بخيوله أثناء وجوده في الخرطوم، وقد أشرف شخصياً على تهجين مهرة من حصان عربي وفرسة سودانية أصيلة.، ويقول عصام الترابي في التقرير إنه عرف بن لادن (شخصاً حيياً جداً ومتواضعاً، ولكنه على ما اعتقد كان ذا إرادة قوية)، ويتابع: "لو ترك هنا لكان يمكن ان يصاب بالسمنة ويتضخم مثله مثل كثير من السودانيين الأغنياء".
الخرطوم تقدم معلومات
بعد مغادرته السودان إلى أفغانستان، قدمت الحكومة الكثير من المعلومات عنه لواشنطن، وصرح مصطفى عثمان إسماعيل عندما كان وزيراً للخارجية بأن الخرطوم تتعاون في الحملة التي تشنها الولايات المتحدة على ما تسميه بالإرهاب وقال إن السودان قدم معلومات إلى السلطات الأمريكية عن بنك الشمال الإسلامي الذي اشتبهت أمريكا بأن له صلة بأسامة بن لادن.
بعد خروجه منه، لم ينقطع اهتمام بن لادن بالسودان، فالجميع يذكر دعوته الشهيرة للجهاد ضد القوات الأجنبية في دارفور، وانتقاداته الأخيرة للحكومة السودانية، لكن أسامة أيضاً - وكما جاء إلى السودان في عام 1991م مستثمراً - كانت آخر تصريحاته بشأن السودان لم تخل بدورها من الطابع الاستثماري، عندما دعا قبل حوالي عام العالم الإسلامي للاهتمام بالزراعة، وانتقد إهمال المساحات الشاسعة من الأراضي الصالحة للزراعة في السودان، وأضاف: "ينبغي تشجيع التجار والأسر التجارية على أن تفرغ بعض أبنائها للإغاثة والزراعة، فالتجار اليوم هم فرسان هذا الميدان لإنقاذ أمتهم من مجاعات رهيبة متوقعة".
يختلف الناس بشأن بن لادن، بين من يراه ثائراً ومناضلاً من أجل المستضعفين من المسلمين، وبين من يراه إرهابياً متطرفاً في أفكاره، ويختلف الناس أيضاً حول حياته في السودان، فبينما يطرح البعض في الداخل السؤال التالي: هل أخطأنا عندما استضفنا بن لادن، يطرح رجال الاستخبارات والسياسيون في الغرب سؤالاً آخر: هل أخطأنا عندما طلبنا خروج بن لادن من السودان؟.
محاولة الاغتيال الأولى في الخرطوم
تعرض بن لادن لمحاولة اغتيال في الخرطوم عندما هاجم منزله المتطرف الليبي محمد عبد الله الخليفي المنضوي تحت مظلة أحد التنظيمات الجهادية وأطلق الرصاص وهو يحاول اقتحام المنزل إلا أن حرس بن لادن تمكن من صده ببسالة نادرة فتمكنت أجهزة الأمن السودانية من قتله وهو يحاول الهرب بعيداً من المنزل، وفي المقابلة الصحفية اليتمية التي أجريت معه بالسودان شكا بن لادن من الخطر الذي يتهدده من بعض الجماعات الإسلامية المتشددة حيث قال: "بعضهم يعلن تكوين شبكة مجاهدة ويطلب من بن لادن تمويله وإن تردد في ذلك فهو كافر مهدر الدم في نظرهم".
ولم تعلن السلطات السودانية ما نتج عن التحقيقات التي جرت حول تلك العملية، خاصة أن قائدها الرئيسي قتل على أرض المعركة.
كان المجتمع الصحفي في الخرطوم يعج بالحديث عن غموض الرجل وقصة استثماراته وكان الحديث يدور لدى المتخصصين بمتابعة قضايا النافذين في التنظيمات الإسلامية بأن المخابرات المصرية استأجرت البناية المقابلة لمنزل بن لادن في ضاحية الرياض بالخرطوم وتمكنت من اختراق التنظيم عبر ابن الرجل الثالث من قيادات التنظيم وكان مصوراً مرموقاً بمؤسسة السحاب للإنتاج الإعلامي التي يملكها التنظيم وقد افتضح أمره عندما سرب إلى الحكومة المصرية تسجيلاً لاجتماع قيادة التنظيم حضره صقور التنظيم مثل الظواهري وعمر عبد الرحمن وأبو حفص المصري، وأدين بالخيانة وحكم عليه التنظيم بالإعدام ونفذ عليه الحكم مما أدى إلى انزواء والده وأفل نجمه بين أقطاب التنظيم بعد تلك الحادثة.. وقيل إن عمر عبد الرحمن هاجر إلى أمريكا بعد أن حصل على تأشيرة الدخول من السفارة الأمريكية بالخرطوم ووصل إلى واشنطن ليدبر عملية تفجير برج التجارة العالمي "المزعومة" ويقضي بقية حياته بالسجن.
لكن بعض التقارير الإعلامية أشارت إلى أن الحكومة السودانية أدركت خطر وجود بن لادن في الخرطوم فطلبت منه المغادرة فطلب طائرة خاصة أقلته إلى باكستان، حيث بقي على تخوم إسلام أباد حتى داهمته القوة الأمريكية لتنفيذ الأمر باغتياله وليس اعتقاله، وهذا ما يرجح أن واشنطن ظلت على علم بمكان بن لادن منذ منتصف 2005 لكنها أجلت عملية الاغتيال إلى الوقت المناسب سياسياً.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف