المؤامرة على سوريا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
أحمد يوسف أحمد
عدت من لبنان بعد زيارة عمل قصيرة. ومن الطبيعي أن يكون اللبنانيون منشغلين بالهاجس السوري، نظراً لأن ما يحدث في سوريا يؤثر بالضرورة عليهم في قضاياهم الجوهرية سلباً وإيجاباً، لكني لاحظت انتشاراً واسعاً لفكرة المؤامرة على سوريا، ولفت نظري أكثر أن النظرية تلقى رواجاً لدى بعض من غير المحسوبين على التحالف مع النظام السوري أو صداقته، على أساس أن النظام السوري يمثل قوة الممانعة الرئيسية للتسوية مع إسرائيل، ويدعم المقاومة اللبنانية والفلسطينية ماديّاً ومعنويّاً. ومن الأهمية بمكان أن نناقش هذه الفكرة بأقصى درجة ممكنة من درجات الموضوعية، ذلك لأن التشخيص السليم لما يجري هو بداية للعلاج الصحيح، والعكس بالعكس. بمعنى أن الإصرار على تشخيصٍ خطأ سيصيب المريض بأوخم العواقب.
لنحاول أولاً أن نناقش المسألة في سياق نظري عام، ومن المسلم به في تفسير أي ظاهرة أن العوامل الداخلية تكون لها الأولوية دائماً على العوامل الخارجية، فمن الحقيقي على سبيل المثال أنه كانت هناك مؤامرة على الثورة العربية في 1967، غير أنه لولا نقاط الضعف في بنية هذه الثورة لما وقعت الهزيمة، أو لعلها كانت لتحدث بوطأة أخف. ومن الحقيقي أيضاً أن الولايات المتحدة الأميركية كانت تتربص شرّاً بالاتحاد السوفييتي، لكنه لم يكن ليصل إلى المصير الذي آلَ إليه بغير الأمراض الداخلية التي كانت تنهش جسده، وهكذا. كذلك يمكن التذكير بأن أدبيات العلاقة بين "العالمي والإقليمي" (وهي صورة أخرى من صور العلاقة بين الداخل والخارج) قد استقرت منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي على أن "العالمي" وإن كان صاحب تأثير لاشك فيه على "الإقليمي" إلا أن الأخير يستطيع إن كان يمتلك مقومات التماسك الذاتية أن يصد هذا التأثير، أو يحيِّده، أو لعله يكون صاحب تأثير بدوره على "العالمي".
ويظهر تاريخ الحركة القومية العربية على سبيل المثال منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي وحتى هزيمة 1967 أمثلة دالة على هذا كله، فقد استطاعت هذه الحركة أن تتفادى كافة محاولات الضغط الخارجي عليها، كما أن حركة التحرر العربي فرضت نفسها فرضاً على قوى كبرى في النظام الدولي عقب الحرب العالمية الثانية، وأزاحتها من المنافسة على لعب دور في قمة النظام العالمي كما في حالتي بريطانيا وفرنسا في عدوانهما على مصر في 1956 بالتواطؤ مع إسرائيل، وإجبار فرنسا وبريطانيا على الجلاء بعد حرب تحرير مسلحة من الجزائر (1962) وجنوب اليمن (1967) على التوالي، كما أن توجهات النظام المصري في ذلك الحين فتحت آفاقاً جديدة لميزان القوى الأميركي- السوفييتي بعد صفقة الأسلحة الشهيرة بين مصر والاتحاد السوفييتي في 1955. المسألة إذن -أي نظرية المؤامرة الخارجية- ليست بهذه البساطة، ويجب أن تُناقش مناقشة علمية جادة، وثمة عدد من الملاحظات في هذا الصدد.
يلاحظ أولاً أن كافة نظم الحكم العربية التي تعرضت لحركات احتجاجية جذرية من قبل جماهيرها بدأت بهذه المقولة: إن هناك تآمراً خارجيّاً عليها، وأنه قد رُصد هذا، وقبض على ذاك، وأن هناك تدريباً على تكتيكات الثورة في الولايات المتحدة الأميركية، ولكن سرعان ما اتضح زيف هذا كله، وأن الاحتجاجات نابعة من الشعب. وإن كان لابد من الاعتراف بطبيعة الحال بأمر بديهي وهو أنه من الضروري أن كافة القوى صاحبة المصلحة حاولت وما تزال استغلال ما يجري، وتوظيفه لصالحها، أو على الأقل تحييد أي تأثير سلبي يمكن أن يحدث لمصالحها الحيوية، غير أن ثمة فارقاً كبيراً بين أن تكون القوى الخارجية هي الرأس المدبر لما جرى وأن تحاول توظيفه في الاتجاه السابق.
أما الملاحظة الثانية ففي ظني أنها بالغة الوضوح والدلالة، وهي أن "الخارج" الذي يفترض فيه أن يتآمر على النظام السوري أو غيره كان شديد الارتباك إزاء ما وقع منذ نهاية 2010 من حركات احتجاجية في الوطن العربي، وانعكس هذا في تذبذب مواقفه -وبالذات المواقف الأميركية- إذ كان واضحاً أن الطابع "البراجماتي" للسياسة الأميركية كان يدفعها حيناً إلى المناداة بالإصلاح وحيناً آخر إلى المطالبة مع الشعوب برحيل الحكام، وقد يقال في هذا الصدد إن النظام السوري يمثل حالة مختلفة بالنظر إلى كونه يمثل قوة ممانعة للمخططات الأميركية، ومصدر دعم مادي ومعنوي للمقاومة اللبنانية التي تمثل هاجساً مزعجاً بالنسبة لإسرائيل، ومن هذه الاعتبارات نستطيع أن نفهم لماذا كانت الأحداث في سوريا بالذات تعبيراً عن مؤامرة خارجية.
وإذا سلمنا بهذا المنطق، أي إذا كانت هناك مصالح محددة تفسر التآمر على سوريا، فما هي المصلحة الأميركية في دعم حركة التغيير في مصر التي كانت إسرائيل تعتبر رئيسها السابق "كنزاً" استراتيجيّاً فيما تعتبره الولايات المتحدة -مع التسليم ببعض الاختلافات الثانوية هنا أو هناك- واحداً من الأركان الأساسية للاستراتيجية الأميركية في المنطقة؟ وما هي مصلحتها في فعل الشيء نفسه مع نظام علي عبدالله صالح الذي قدم للولايات المتحدة دون قيد أو شرط أقصى تسهيلات ممكنة في حربها ضد "القاعدة" على الأراضي اليمنية؟ بعبارة أخرى، لماذا يكون الموقف الأميركي محكوماً بمصالحه في الحالة السورية بالذات دون غيرها من الحالات؟
تشير الملاحظة الثالثة إلى أن القيادة السورية منذ الوهلة الأولى للأحداث قد اعترفت بالحاجة إلى الإصلاح، وبأن عملية الإصلاح قد تأخرت في سوريا وهي تحاول الأخذ ببعض مسبباته، وتعلن أن كافة الآراء المعارضة يجب احترامها طالما تأتي تحت سقف الوطن، وتدخل في مشاورات مكثفة مع الفعاليات السورية في كل مكان، ولم يكن لهذه المشاورات من فائدة إذا كانت الأحداث كلها صناعة خارجية.
لهذه الأسباب كلها يبدو تشخيص ما يجري في سوريا على أساس أنه لا يعدو أن يكون مؤامرة خارجية تشخيصاً غير سليم، مع التسليم -كما سبقت الإشارة- بأنه لابد وأن تكون هناك محاولات خارجية لتوظيف الأحداث في الاتجاهات التي تخدم مصالح القوى التي تقوم بهذه المحاولات، وما دام التشخيص غير سليم فإن محاولات حل الأزمة الراهنة في سوريا يبدو أنها تسير في الاتجاه الخاطئ تماماً لأنها -أي هذه المحاولات- تستند إلى الحل الأمني المفرط في استخدام القوة، ومن المستحيل -أيّاً كانت الأسباب- أن يقبل المرء سقوط هذا العدد من القتلى والجرحى من أبناء الشعب السوري. كما أن هذا الإفراط في استخدام القوة سيؤدي إلى تصعيد الأزمة لا تهدئتها وفقاً لدروس الخبرة الماضية. ولعل هذا الاعتبار هو الذي دفع عدداً من أنصار سوريا في لبنان مؤخراً إلى طرح تساؤلات قلقة عن السبب في عدم التنبه إلى المشكلة مبكراً، وكذلك السبب في الاستخدام المفرط للقوة، وهكذا. وكلها تساؤلات مشروعة تحتاج إجابات صادقة تجنيباً لسوريا مغبة السير في طريق لن ينتهي إلا بانتهاء دورها العربي، وقد تكون له تداعيات أخطر على الداخل السوري.
أعان الله سوريا الحبيبة، وسدد خطاها، ووفق شعبها إلى ما فيه الخير. ذلك أن سوريا -أيّاً كان رأينا في نظامها الحاكم- صاحبة دور عربي مؤثر، كما أن شعبها دون أدنى شك يستحق أن يعيش في ظروف من الكرامة الإنسانية وتحرر من القلق والخوف المشروع على حاضره ومستقبله.