"أبيي" تفتح باب الحرب بين شمال السودان وجنوبه
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الخرطوم - عماد حسن
ينتظر السودان صيفاً ساخناً إلى حين هطول أمطار التاسع من يوليو/تموز المقبل، موعد الإعلان الرسمي عن قيام دولة الجنوب، وهو الموعد الذي طالما تمنى كثيرون تأجيله بقدر ما تمنى مثلهم تعجيله، فقد عادت منطقة أبيي منذ فبراير/شباط الماضي وحتى الأسبوع الجاري لترفع من وتيرة الصراع حولها باشتباكات صغيرة تارة وتصريحات نارية تارة أخرى، حتى اندلعت الحرب حولها وفيها نهاية الأسبوع الماضي، وأعلن الجيش السوداني سيطرته عليها .
أبيي المنطقة الغنية بالنفط والثروة الحيوانية، تعد أكبر عقبة أمام إبحار السودان إلى بر الأمان، حيث التنفيذ النهائي والشامل لاتفاقية السلام الشهيرة التي امتدت تداعيتها طوال العقد الماضي لتوقع في منتصفه، وتنتهي باستفتاء شهير مطلع العام الجاري أفضى إلى خيار الجنوبيين فصل دولتهم عن الشمال وانتظار التاسع من يوليو/ تموز المقبل لإعلانها رسمياً .
وأطلت أبيي برأسها منذ مايو/ أيار من عام 2004 عندما أعلن بروتوكول لها عبر اقتراح سياسي أمريكي وقبل الطرفان، حكومة الخرطوم بزعامة الرئيس عمر البشير، والحركة الشعبية بزعامة الراحل جون قرنق آنذاك وسلفاكير ميارديت حالياً، لينتقل الخلاف حولها بعد ذلك إلى لاهاي حيث المحكمة الدولية التي قلصت شريطها الحدودي إلى أقل من 10 آلاف كيلومتر بدلاً من أكثر من 18 ألف كيلومتر، وأخرجت بعض آبار النفط لمصلحة الشمال .
لكن أبيي ما فتئت تعود لتتسيد الأحداث بين الشمال والجنوب، وظلت كقول أحد السياسين ldquo;مسمار جحاrdquo; الذي غرزه الأمريكيون في خاصرة السودان، وبدأت المنطقة تفرض واقعاً جديداً، رفض أن يضع حداً للصراع الاثني والعسكري والجغرافي بين الشمال والجنوب الذي امتد لثلاثة قرون من الزمان، ولم تشفع التضحيات والتنازلات والانحناءات لعواصف كثيرة للشمال والجنوب أن يضعا نقطة أخيرة في سطر الحرب مثلما أقنعا العالم بأنهما وضعا أسلحتهما .
وتعود أبيي لواجهة الأحداث بين الجنوب والشمال قبل أن تصل باخرة السلام المتجهة من الخرطوم إلى جوبا أو تلك التي في الطريق المعاكس إلى محطتها الأخيرة، كأنما لعنة الحرب الأهلية التي امتدت لأكثر من ثلاثين عاماً لا تقبل سلماً أو سلاماً، قبل أن تحصد مزيداً من الأرواح، ربما انتظاراً لإحدى المعجزات، كأن يغير النيل وجهته من الجنوب إلى الشمال، أو تخرج ldquo;الكجورrdquo; أرواح الآباء الأوائل ليعود السودان مرة أخرى كما كان قبل اندلاع الحرب .
اندلاع المواجهات المسلحة بين الطرفين خلال الأسبوع الماضي، حين هاجم جيش الحركة الشعبية الجيش السوداني وفي معيته عناصر من قوات حفظ السلام الدولية، على بعد 10 أميال من أبيي عبر كمين استهدف الموكب المنسحب إلى خارج مشارف أبيي وفقاً لاتفاق كادوقلي الشهر قبل الماضي . لا تنفصل عن زيارة معلنة لوفد مجلس الأمن الدولي للسودان، حيث يرى مراقبون أن الهجوم أهدافه سياسية بقصد فرض واقع بعينه في أبيي، قبيل ساعات من وصول وفد المجلس إلى المنطقة، لتذكير أعضائه بقرار لاهاي الدولي حول المنطقة، ودفعهم إلى إجبار الخرطوم على تنفيذه وتسليم أبيي لقمة سائغة .
غير أن ردة الفعل القوية لحكومة الرئيس عمر البشير، بجانب الإدانة الصارمة للأمم المتحدة للهجوم، ورسالة الولايات المتحدة الساخطة لحكومة الجنوب وطلبها تفسيراً وتحقيقاً فورياً، خلط أوراق الحركة الشعبية التي لم تتوقع كل ذلك، وظنت تبعاً لمراقبين أن الغرب وآلياته لا يزال في جيبها الخلفي .
فوفد مجلس الأمن الذي حطت رحاله بعيد ساعات من الهجوم وعشية الرد المسلح للجيش السوداني، عمد فوراً إلى إلغاء زيارة المنطقة التي كان مقرراً لها منتصف الأسبوع قبل زيارته العاصمة الجنوبية جوبا ldquo;بسبب التصعيدrdquo;، وعقد جلسة في الخرطوم استحوذت أبيي وما يدور فيها من صراع على كل ساعاتها . ولا يتضمن هذا التقرير ما دار في جوبا المتوقع زيارة وفد المجلس لها يوم الخميس، إلا أن مراقبين توقعوا أن تتطور الأحداث إلى الأسوأ، في ظل سيناريو متوقع لنشوب حرب أهلية أو ldquo;شاملةrdquo; بين شمال السودان وجنوبه، قد يجعل من ldquo;لقاء جوباrdquo; فصلاً جديداً لعلاقة الغرب بحكومة الجنوب الوليدة .
وكانت واشنطن، التي تتقدم مندوبتها سوزان رايس وفد مجلس الأمن في زيارة السودان، قد دعت الجنوب إلى إزالة كل القوات المسلحة غير المرخص لها أو المتفق على بقائها في المنطقة وضمان عدم تصعيد الحالة، عقب تصاعد القلق الدولي بشأن عودة الحرب . وأعرب مسؤول في الخارجية الأمريكية عن أسف بلاده للهجوم الذي وقع من ldquo;قوات جنوبيةrdquo; على موكب تابع للأمم المتحدة . وقال مارك ترنر المتحدث باسمها إن الهجوم ldquo;خرق مباشرrdquo; لاتفاق السلام الموقع بين الشمال والجنوب الذي ينص على ldquo;سحب كل القوات غير المرخص لها بالبقاءrdquo; من أبيي . وأضاف ldquo;نطالب حكومة الجنوب بتقديم تفسير لهذا الهجوم، واتخاذ خطوات في إظهار التزامها بتطبيق اتفاق كادوقلي، وضمان أن تتحلى قواتها بضبط النفسrdquo; .
ويأتي إعلان الجيش السوداني الفوري أن أبيي ldquo;منطقة حربrdquo; قاطعاً الطريق أمام أي تأويل أو تلميح، ليتبعه بإصدار أوامره ودخول قواته إلى أبيي، ويعلن القيادي في حزب المؤتمر الوطني الحاكم في الشمال مندور المهدي ldquo;نحن على مشارف أبيي وجيشنا دك حصون الحركة الشعبية وسندخل أبيي . . لقد صبرنا كثيراًrdquo; . ويعقب ذلك استدعاء الخارجية الممثل الخاص للأمم المتحدة هايلي منقريوس وإبلاغه احتجاجاً رسمياً على تصرفات الحركة الشعبية وجيشها، واعتبارها الهجوم عملاً إجرامياً وخرقاً واضحاً لاتفاقية السلام واتفاقية كادوقلي . كل ذلك يعني فعلاً دخول المنطقة الحرب .
ولم يوفر الممثل الخاص للأمم المتحدة هايلي منقريوس، وقتاً لاختيار عبارات دبلوماسية للتعليق على الهجوم، بل اعتبره فوراً ldquo;خرقاً لاتفاقية السلام وكادوقلي من قبل الحركة الشعبيةrdquo; . خاصة أن الأمين العام نفسه بان كي مون أدان الحادث بشده واعتبره جريمة وخرقاً واضحاً لاتفاق كادوقلي، ودعا إلى تحقيق عاجل وفوري في الحادث، واتخاذ الإجراءات المناسبة ضد مرتكبي ldquo;الهجوم المتعمدrdquo; في منطقة تسيطر عليها حكومة جنوب السودان . ووصف الهجوم بأنه ldquo;جريمة جنائية ضد قوات الأمم المتحدةrdquo;، وأوضح أن القافلة التي كانت تقل 200 من جنود القوات المسلحة في الوحدات المشتركة، إلى مناطق محددة شمالاً، حينما وقع الهجوم، كانت تنفذ خطة اتفاق كادوقلي، التي وافقت عليها جميع الأطراف .
وسرعان ما ارتفعت أسهم التوقعات بعودة الحرب الشاملة بين الشمال والجنوب، وربما حين نشر هذا التقرير، تكون أبيي أضحت منطقة عمليات عسكرية في أعلى مستوى، فقد أجمع المراقبون خلال الأسبوع الجاري على أن تطور الأمور إلى حرب أهلية نسبة إلى التدهور المريع والخطير للأوضاع هناك . فقد اجتاح الجيش السوداني، بإحساس الخديعة والغدر وفقدانه لقرابة الثلاثين من جنوده، معاقل الحركة الشعبية في تخوم أبيي وداخلها، وعمد إلى قصف مناطق بعينها، وبدأت مئات الأسر في منطقة (أبيي) النزوح جنوباً كما بدأت الأمم المتحدة في إجلاء موظفيها من المنطقة، وسط توقعات باندلاع حرب شاملة . وقال حاكم منطقة (أبيي) دينق أروب إن طائرات ldquo;الميغrdquo; وrdquo;الانتنوفrdquo; قصفت نحو سبع مناطق، كما دارت معارك ومواجهات مباشرة بين مشاة القوات المسلحة السودانية وشرطة (أبيي) ببلدة (توداج) .
ويبدو أن الجيش السوداني الذي أعلن مراراً ضبط النفس، وصبر على خروقات الحركة الشعبية حسب الناطق باسمه الصوارمي خالد سعد، نفد صبره، ويريد أن يرسل ما يقنع الجيش الشعبي بمقدرته وإمكانيته على اجتياح منطقة أبيي، من دون التفات إلى دبلوماسية الخرطوم أو وفدها المشارك في مباحثات أديس أبابا لحلحة القضايا العالقة بين الطرفين . خاصة أن روايات غير رسمية رددت أن السرية تضم 200 جندي مات غالبيتهم، وهرب آخرون فيما نجا 4 منهم فقط، وروايات أخرى تتحدث عن مقتل أكثر من 400 معظمهم من الجيش السوداني والبقية من بعثة ldquo;يوناميسrdquo; التابعة للأمم المتحدة . ويشير أحد المسؤولين في المؤتمر الوطني إلى أن تحرك الجيش كان لازماً خاصة بعدما اغتيل جنوده غدراً رغم احترامه لاتفاق كادوقلي الموقع في شباط/فبراير الماضي، الذي قضى بسحب قوات الجيش السوداني من أبيي وكذلك الجيش الجنوبي، على أن تتولى وحدات مشتركة بين الطرفين مسؤولية الأمن في المنطقة .
ويدفع الجيش السوداني بمزيد من التوضيحات حين يقول نائب رئيس هيئة الاستخبارات والأمن اللواء ركن صديق عامر، إن إعادة الانتشار في المنطقة تأتي لتفادي وعورة الطريق في فصل الخريف وإيصال الغذاء والمياه نحو 12 نقطة متفق عليها بين الجانبين في مجلس الدفاع المشترك . قبل أن يؤكد أن منطقة أبيي شمالية وأمر معالجتها سيتم عبر الشمال، ويضيف ldquo;أن الدينكا ليسوا شماليين ولكن الأرض شماليةrdquo; . ولا ينسى أن يعبّر عامر عن وجهة نظر سياسية أخرى حين يقول إن استراتيجية الدولة هي عدم الدخول في حرب مع الجنوب لجهة أن مليوني شخص عادوا إلى مناطقهم بجنوب السودان من الوارد عودتهم لحظة تجدد الحرب وهو ما سيترتب عليه أعباء على الشمال .
وفي المقابل، سارعت الحركة الشعبية وقللت من الهجوم، ودفعت برئيس إدارية أبيي دينق أروب للقول إن الأحداث التي وقعت لا تعتبر مبرراً لهجوم الجيش، لاسيما أنها تمت جراء انشقاق داخل القوات المشتركة . ويضيف مزيداً من العبارات الهادئة مثل أن هناك آليات ومؤسسات من نيفاشا يمكن أن يحتكم إليها في أية مشكلة . وينفى أن تؤثر الأحداث في سير اجتماعات أديس أبابا الجارية حالياً بين الشريكين، ويعود ويؤكد أن الحركة تتمسك بخيار السلام والعلاقات الجيدة بين الشمال والجنوب . وكان المتحدث باسم الجيش الشعبي العقيد فيليب أقوير استبق زميله بقوله ldquo;ليس صحيحاً أن الجيش الشعبي هاجم . . إن الموقف يحتاج إلى تحقيق ملائم، لدينا تقارير تفيد بوقوع التباس بين القوة المشتركة والقافلة ولم يتضح من أطلق النار أولاًrdquo; .
ويبدو أن الكمين الذي نصبته قوات الحركة الشعبية للجيش السوداني، كان يستهدف أكثر من مقتل عشرات الجنود، فالقوات أصلاً كانت منسحبة تنفيذاً للاتفاق مستقلة 6 سيارات تابعة للأمم المتحدة و4 سيارات تابعة للجيش السوداني على متنها 200 فرد . لكن الأهداف حسب المراقبين لم تسجل لمصلحة الحركة الشعبية، بل إن خسارتها الآنية كانت في رفض الجيش تصريحات البعثة الدولية التي قالت إن منفذي الهجوم مجهولون، وبادر إلى ضرب أولئك المجهولين ضمن مهامه العسكرية، واستهدف بالطبع معاقل جيش الحركة الشعبية . ولاحقاً تراجعت الأمم المتحدة عن توصيفها للقوات المهاجمة للجيش السوداني على أنها قوات مجهولة إلى التأكيد أن تلك القوات تتبع للحركة الشعبية وأن الهجوم وقع في منطقة تبعد (8) كيلومترات من منطقة أبيي، وفي مناطق تسيطر عليها شرطة الجنوب .
والجيش السوداني الذي أعلن ldquo;أن ما يحدث الآن لن يجعل من أبيي منطقة سياحية بل هي منطقة حرب بكل ما تحمل الكلمة من مضمون قتلى وجرحى وحرق للغابات تلك هي الحرب ولن نسكت على هذا العدوان الآثم من قبل الجيش الشعبيrdquo;، الذي أطاح مؤقتاً بأهداف الحركة الشعبية، التي كانت تنظر إلى وفد مجلس الأمن خاصة أن قوات ldquo;اليونميسrdquo; الدولية طالبت الجيش بحمايتها من خروقات جيش الحركة في أبيي .
وعود على بدء، فإن منطقة أبيي المتنازع عليها، لم تبدأ أوار حربها الجديدة في خضم الانتخابات الأخيرة التي خاضتها ولاية جنوب كردفان، التي اعتبرها مراقبون ldquo;جزءاً يسيراً من معضلتها الكبيرةrdquo;، التي رفضت نتيجتها الحركة الشعبية، وتوالت التصريحات النارية من الطرفين حول الولاية الحدودية، لكن التصعيد له جذور تمتد منذ توقيع اتفاقية السلام الشامل في عام 2005 حين ألحق بالمنطقة بروتوكول خاص، وضعها بين قنابل مؤقوته، انفجر بعضها في عام ،2008 وبعضها عقب قرار محكمة العدل الدولية المرفوض من قبائل المسيرية ذات الأصول العربية التي تقطن المنطقة بجانب قبيلة دينكا نقوك الإفريقية .
وحتى التاسع من يوليو/تموز المقبل، حين يصبح الجنوب دولة ذات سيادة واعتراف دولي، ستتصاعد الأحداث طبقاً للمراقبين، ربما تتحول أبيي إلى أرض متنازع عليها بين دولتين، في ظل تقارير عن تمركز 8 آلاف جندي من قوات الجيش الشعبي شمال خط 56 بولاية جنوب كردفان، يتلقون المؤن بصورة يومية من جوبا، ومن كينيا وأوغندا، وفي ظل تطويق الجيش السوداني للمنطقة واعتبار حمايتها سيادة وواجب وطني، ستمضي أيام السودان ساخنة ldquo;44 يوماًrdquo; ربما يسهم الخريف كما يفعل كل عام في تهدئة الأمور وتصعيب حركة الطرفين، ويخفف من وطأة الحر الذي يرى كثيرون أنه أحد الأسباب الجانبية لتعكير المزاج السوداني .