جريدة الجرائد

الديموقراطية والربيع العربي

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

عبدالله بن بجاد العتيبي


لم تغب الرغبة في نشر الحرية عن كثيرٍ من الرؤساء الأميركيين، ولكنّ فيما يتعلّق بنشر الديموقراطية في الشرق الأوسط فقد جاء التركيز الأقوى مع الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، حين أعلنت إدارته أن نشر الديموقراطية في الشرق الأوسط هي "المهمة الأخلاقية لهذا العصر"، وهي مهمةٌ بدأها بوش بالطريقة الخشنة وأراد دعمها بالطريقة الناعمة، وحسب صحيفة الشرق الأوسط العدد 9020 بتاريخ 9 أغسطس 2003، فقد "بدأ المسؤولون في إبلاغ الكونجرس حول مشروع لإنفاق 20 مليون دولار هذا العام و30 مليوناً في العام القادم يخصص للتعاون المالي في الشرق الأوسط، بينما تدعم وزارة الخارجية اقتراحاً من السناتور جوزيف بايدن الديموقراطي بإنفاق 15 مليون دولار على مؤسسة لدعم مبادرات المجتمع المدني".

أكملت إدارة أوباما المهمة، واقتراح جوزف بايدن الذي كان سيناتوراً في ذلك الوقت، وأصبح نائباً للرئيس تحوّل مع هيلاري كلينتون إلى أن "الولايات المتحدة ملتزمة بتكريس الموارد الدبلوماسية، والاقتصادية، والتكنولوجية الضرورية للدفع قدما بهذه الحريات -أي حريات الإنترنت- و إننا نريد أن نضع هذه الأدوات في أيدي الذين سيستخدمونها لتعزيز الديموقراطية وحقوق الإنسان" وذلك في خطابها الذي ألقته في 21 يناير 2010 في متحف الأخبار "نيوزيام" في واشنطن.

هذا جزء من استراتيجية أميركية معلنةٍ ربما يجدر أن نستحضرها لنعرف لماذا بادر أوباما لمطالبة مبارك بالرحيل الآن وفوراً، ونعرف لماذا كتبت كونداليزا رايس مقالتها "مستقبل مصر ديموقراطية" الشرق الأوسط عدد 11770 بتاريخ 18 فبراير 2011.

معلومٌ أنّ هذه الاستراتيجية تؤثر عليها بشكلٍ كبيرٍ مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، ويكفي رصد اختلاف مواقف الولايات المتحدة تجاه ما جرى في مصر وليبيا، وتجاه ما يجري في سوريا على سبيل المثال، ولكنّني لست هنا بصدد مناقشة هذه الاستراتيجية وإنما بصدد مناقشة الفكرة التي تقوم عليها وهي فكرة نشر الديموقراطية في الشرق الأوسط إن عبر الإنترنت أو غيره.

ما لا تستحضره هذه الاستراتيجية، هو أنّ نشر الديموقراطية في المنطقة ليس بالضرورة أن يؤدي لنفس نتائج انتشار الديموقراطية في الغرب، ذلك أن العملية الديموقراطية في الغرب خرجت من رحم مخاضٍ عسيرٍ وطويلٍ امتد لقرونٍ حتى تخلص الغرب من آفات التخلف المتمثلة في الإثنيات والطائفيات والمذهبيات والأيديولوجيات المتطرفة، ولكنّها في الشرق الأوسط ليست كذلك، فهذه الآفات لم يزل لها الصوت الأعلى في منطقتنا والتأثير الأكبر على الأفراد والمجتمعات، ولم تزل مبادئ الفكر الديموقراطي ضعيفة لدينا كشجرة الظل، فهل نشر الديموقراطية كعملية سياسية قبل ترسيخ مبادئها وأفكارها، يعتبر نوعاً من وضع العربة قبل الحصان؟ وهل المجادلة بأن معنى الديموقراطية في السياق الحضاري الغربي يختلف عن معناها في السياق الحضاري العربي يثير حفيظة البعض؟

جادل عددٌ من الفلاسفة والمفكرين بأن "ثقافة الديموقراطية" أو "فلسفة الديموقراطية" يجب أن تسبق "تطبيقها" حتى يتم ضمان وصولها للنتائج المتحضرة التي حدثت في الغرب، ولعلّ من المفيد هنا استحضار ما حدث حين فرضت سياسة نشر الديموقراطية الخشنة فرضاً من قبل الولايات المتحدة في بلدين شرق أوسطيين هما العراق وأفغانستان، فالديموقراطية في العراق بعثت أسوأ ما فيه فاستحكمت الطائفية، وكان لها الصوت الأعلى، فأريقت الدماء وقتل الناس على الهوية والطائفة والمذهب واستبدت الأكثرية وطغت، وتنمّرت الأقليات بالتفجيرات أو اختارت الهجرة حلاً، أما صور صناديق الاقتراع المحمولة على الحمير في أفغانستان فلم تغير شيئاً من الوضع هناك واقتصرت فائدتها فقط حينما شاهدها الناخب الأميركي في الفضائيات وهو متكئ على أريكته.

إنّ الخطابات الأصولية في منطقتنا مع أنّها الأكثر تخلفاً إلا أنّها الأوسع انتشاراً والأكبر تأثيراً، وموقفها من الديموقراطية تعبر عنه أربع صيغ: الأولى أنّ الديموقراطية كفرٌ بالله ومنازعة له في التشريع، وهذه الصيغة هي الأكثر عمقاً وانتشاراً لدى التيارات الأصولية الجهادية والسلفية والإخوانية القطبية. الثانية ترى في الديموقراطية مجرد مطيةٍ للوصول إلى الحكم ومن ثمّ الانقضاض عليها وإلغاؤها لصالح حكم الشريعة أو دولة الخلافة، وهو ما عبّر عنه صراحة علي بلحاج الرجل الثاني في "جبهة الإنقاذ" الجزائرية سابقاً وأسرّه غيره. الثالثة تؤمن بالديموقراطية بعد تحويرها وتعديلها لتتسق مع الخطاب الفكري والديني الأصولي وتمثلها عدد من جماعات الإسلام السياسي. الرابعة هي أقلية نخبوية ضئيلة العدد والتأثير تؤمن حقاً بالديموقراطية، ولكنها تعيش على هوامش تلك التيارات.

يجادل البعض بأن الإسلام الأصولي أو الراديكالي -كما عبرت كونداليزا رايس- ربما انتعش لفترةٍ ولكن قوّة الدفع الثورية ستقف في وجهه وستحاسبه وستخلعه كما خلعت الأنظمة السابقة، وأن قوة الدفع الثورية هذه تقودها مفاهيم عصرية مثل حقوق الإنسان والحرية والديموقراطية والعدالة ونحوها وهذه المفاهيم تكفي لردع المدّ الأصولي وتحجيمه، هكذا يطرحون.

تبدو هذه المجادلة رومانسية أكثر مما هي واقعيةٌ، وقوة الدفع الثوري لا يمكن صرفها على أرض الواقع، فشباب التحرير -مثلاً- احتشدوا بدون الأصوليين في ميدان التحرير الجمعة الماضية في القاهرة، وبقيت التيارات الأصولية في بيوتها، لأنها تعتقد أن الوضع الحالي هو الوضع الأفضل لها للتمدد وإحكام القبضة على الواقع والمستقبل، ثم إن المفاهيم العصرية السابقة وجدت لها مكاناً في الخطابات الأصولية وخاصة خطاب الإسلام السياسي والإخوان، وذلك بعد تحويرها لتتواءم مع خطاب وتوجهات الجماعة منذ أمدٍ ليس بالقريب، ويكفي النظر إلى اسم حزب الإخوان الجديد في مصر (الحرية والعدالة) لنعرف كيف أن الأصولية قادرة على اختطاف هذه المفاهيم العصرية بسهولةٍ والمزايدة على مطالبات الشباب بها.

ما لا تستحضره الإدارة الأميركية والفرحون بالاحتجاجات العربية هو أنّ ثقافة الإثنيات والمذهبيات والطوائف أرسخ من ثقافة الديموقراطية في العراق وسوريا، وثقافة الطائفية ومبادئ الإسلام السياسي أقوى من ثقافة الديموقراطية في مصر، وثقافة القبيلة أوسع انتشاراً من ثقافة الديموقراطية في اليمن وليبيا، وفي هذا ما يجب أن يثير القلق لدى أي مراقبٍ لأحوال المجتمعات في المنطقة ومستقبلها.

يقول جورج طرابيشي "في ثقافة الديموقراطية" ص17: "لا وجود لديموقراطية سياسية بحتةٍ فالديموقراطية بالأساس ظاهرة مجتمعية ... ولئن تكن الحرية الديموقراطية تنتهي لا محالة إلى صندوق الاقتراع، فإن الصندوق الأول الذي تنطلق منه هو جمجمة الرأس، وإن لم يتضامن صندوق الرأس مع صندوق الاقتراع، فإن هذا الأخير لن يكون إلا معبراً إلى طغيان غالبية العدد". وصدق، فجمجمة الرأس لدينا متخمةٌ بكل ما هو نقيضٌ لثقافة الديموقراطية.

ليس من غرض هذا المقال التقليل من شأن الحرية بحالٍ فهي مطمحٌ إنسانيٌ طبيعيٌ وربما كان غريزياً، ولكنّ الديموقراطية ما لم تتوفر لها البيئة المناسبة والشروط الموضوعية قد تصبح وبالاً، كما ليس من غرض هذا المقال رسم صورةٍ متشائمة للمستقبل في المنطقة ولكنّها مجرد محاولة للقراءة والتحليل.

أخيراً، تبدو الولايات المتحدة متصالحة مع وصول الإسلام الأصولي لسدة الحكم في المنطقة، وقد كانت متصالحة معه في أفغانستان في الثمانينات فجنت علقم الإرهاب لعقودٍ، فماذا تؤمل أن تجني اليوم؟

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف