النفط أم الدنانير... مصيبة ليبيا؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
محمد عارف
"فأر سومطرة العملاق، إنها قصة لا يزال العالم غير مستعد لها". قال ذلك بطل الروايات البوليسية "شرلوك هولمز" وكأنه يتوقع أحداث ليبيا. فالليبيون مرشحون، حسب الكاتب الاقتصادي الأميركي "روبرت وينزل"، لقائمة "جينيس" للأرقام القياسية، وذلك للسرعة في تأسيس "المصرف المركزي" في بنغازي منذ الأسابيع الأولى للثورة. قبل بنغازي كان الرقم القياسي للعراق، حيث بدأ "المصرف التجاري العراقي" أعماله في الشهور الأولى للاحتلال عام 2003. والمصرفان، الليبي والعراقي، شهادة على "تحرير" البلدين. فمصرف بنغازي ولد قبل احتلال ليبيا، أعني قبل احتلالها بالكامل، والمصرف العراقي ولد بعد الاحتلال بالكامل، وكلا المصرفين "الحكوميين"، ولدا عندما لم تكن هناك حكومة!
و"فأر سومطرة العملاق" نفط ليبيا، الذي يشكل 2 في المئة من الإنتاج العالمي، وصناديقها السيادية المستثمرة في الخارج، وتقدر بنحو 200 مليار دولار، ودنانيرها المغطاة بكميات ضخمة من الذهب يبلغ وزنها 144 طناً محفوظة في خزائن "المصرف المركزي" الأصلي، إذا صح التعبير، الموجود في طرابلس. وهذه الأطنان غطاء مشروع "الدينار الذهبي الموحد"، الذي أعلنه القذافي في العام الماضي، وهو حلم بلدان عربية غنية تخسر المليارات سنوياً بسبب استثماراتها بالدولار واليورو. وتعتقد الباحثة الاقتصادية الأميركية إيلين براون، رئيسة "معهد الصيرفة العامة" في لوس أنجلوس، أن الهجوم على ليبيا سببه النظام المصرفي الليبي الذي تعارضه واشنطن ودول "الناتو" الأوروبية، ويعتبره ساركوزي "خطراً يهدد الأمن المالي للبشرية"!
هل سيظل هذا الذهب ملك ليبيا بعد تحريرها من حكم القذافي، أم سيختفي مع السيادة المالية للدولة كما في العراق؟ ما يُسمى "التحرير" لا يقتصر على نهب المليارات، بل إنشاء بنوك مركزية غير أصلية، وهنا يصح التعبير، فعملها تحويل الثروات الوطنية إلى أكوام دولارات أميركية ورقية، ودفع البلد إلى هاوية النظام المصرفي الغربي. ويشاهد العالم على شاشات التلفزيون كيف تبتلع هذه الهاوية بلداناً عريقة منعمة بثروات الطبيعة والزراعة والتاريخ الجميل، كاليونان، وإسبانيا، والبرتغال، وإيرلندا. الكاتب الاقتصادي باتريك هينينغسن، رئيس تحرير صحيفة "تحليلات الأسواق" الإلكترونية، "أوراكل ماركيت"، يقدم قراءة لميثاق "المصرف المركزي الليبي" الأصلي، ومن أهم بنوده "إدارة كمية ونوعية وقيمة موجوداته للوفاء بمتطلبات النمو الاقتصادي واستقرار العملة". وهذا، حسب هينينغسن "عَكس الدور الذي تلعبه مصارف مركزية غربية مملوكة للقطاع الخاص، كـ"الاحتياطي الفيدرالي" الأميركي، و"بنك إنجلترا". "فهذه البنوك تخلق التضخم، وتنفخ دورياً فقاعات مالية مصممة خصيصاً للتفجير وتحويل كميات ضخمة من الثروات من أيدي الطبقات الدنيا والوسطى إلى أيدي النخب المالية".
ويمثل إصدار النقود الورقية والإلكترونية أكبر عملية نهب لثروات الأمم. يذكر ذلك الباحث الاقتصادي الفليبيني "إريك إينسينا" الذي ينّبه إلى حقيقة "يتجاهلها السياسيون والإعلاميون الغربيون، وهي أن المصرف المركزي الليبي الأصلي مملوك للدولة بالكامل، وهو الذي يقوم بصنع النقود، وإصدار الدينار الليبي، وتحرير القروض". ولم يجد "الكارتل المصرفي العولمي"، حسب الباحث الفليبيني، التعامل ممكناً مع ليبيا دون المرور بـ"المصرف المركزي" والقبول بالعملة الليبية، وكلاهما خارج السيطرة الأجنبية. فالاستثمارات الخارجية المباشرة، ومعظمها بالدولارات حكمت على اقتصادات بلدان عدة بالنمو غير المتوازن باتجاه الصادرات، لمجرد تحقيق فوائد لتسديد الاستثمارات الأجنبية بالدولار، وهذا لا يحقق سوى القليل من النفع للاقتصادات الوطنية. "نظرية النقود التابعة للدولة" التي تطبقها ليبيا تجعل الحكومة قادرة على استخدام عملتها الوطنية لتمويل كافة حاجاتها التنموية المحلية دون الوقوع في شباك التضخم المالي.
وتعني "نظرية النقود التابعة للدولة" النقود التي تصدرها الحكومات، وليس المصارف الخاصة التي تهيمن على إصدار النقود في معظم الدول. وغير صحيح الادّعاء بأن استدانة الحكومات من مصارفها المركزية غير الخاضعة للقطاع الخاص تسبب التضخم، وأن الاستدانة من "صندوق النقد الدولي" لا تسبب التضخم. يؤكد ذلك الباحث الاقتصادي الأميركي الصيني هنري ليو، الذي يذكر أن جميع المصارف، سواء كانت ملكاً للقطاع العام أو الخاص، تنشئ في دفاترها النقود التي تقرضها. ومعظم النقود مصدرها اليوم قروض المصرف، لكن ميزة الاستدانة من مصرف الدولة المركزي أنه لا يقاضي فوائد. ويقلص حذف الفوائد كلفة المشاريع الحكومية إلى النصف. ويفسر هذا تعاظم الاهتمام بالصيرفة الإسلامية التي تحرّم الفوائد كالربا.
ولولا "المصرف المركزي الليبي" الأصلي لما استطاعت طرابلس بناء مشروع "النهر الصناعي العظيم" الذي تعتبره إيلين براون "أكبر وأغلى مشروع إروائي في التاريخ". ينقل النهر الذي بلغت كلفته 33 مليار دولار المياه عبر أنابيب تحت الأرض مسافة أربعة آلاف كيلومتر من المياه الجوفية في الصحراء إلى مدن الساحل الليبي. وتخشى الباحثة الأميركية أن يسبب قصف "الناتو" كارثة إنسانية إذا دمّر هذا "المشروع الإروائي الذي يؤمن 70 في المئة من حاجات السكان لمياه الشرب والري". ومن مفارقات "ثورة بنغازي" أن "النهر العظيم الذي جعل ليبيا من الدول الرائدة في الهندسة الهيدروليكية"، حسب تقرير "بي بي سي"، أنقذ بالذات "مدينة بنغازي التي كانت تعتمد على مياه جوفية ملوثة وغير صالحة للشرب". وتشير الباحثة الأميركية إلى مفارقة أخرى تتعلق بتبرير الحرب على ليبيا لانتهاكها حقوق الإنسان، وتذكر أن "لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان" فوجئت بالأحداث فيما كانت تعدّ "مشروع قرار مفعم بمديح سجل ليبيا في حقوق الإنسان"! وأشاد مشروع القرار الذي حظي بمباركة دول عدة بجهود ليبيا "في تحسين فرص التعليم، وإيلاء الأولوية لحقوق الإنسان، وتحسين الإطار الدستوري"!
هل النفط، أم الصناديق السيادية، أو الدينار الذهبي... سبب مصيبة ليبيا؟ ليس هذا كله، فالمصيبة، حسب اعتقادي، روح النكتة لدى القذافي. وإلاّ مَنْ يسمي بلداً عدد سكانه أقل من سبعة ملايين "الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى"؟.. ومَنْ يسك دنانير ذهبية تهدد الأمن الاقتصادي لواشنطن القائم على طبع دولارات ورقية؟.. أفعال أقل من ذلك بكثير دفعت واشنطن ولندن لتدمير العراق على رأس أهله لمجرد أن بغداد اعتمدت عملة "اليورو" في التعاملات النفطية. وكان بين أول الأوامر الرئاسية لبوش عند احتلاله العراق إعادة التعامل بالدولار، ولم تنبس الأمم المتحدة بكلمة واحدة، رغم أن الأمر انتهاك للقوانين الدولية. وبعد أسابيع أسسّ حسين الأزري، ابن شقيقة أحمد الجلبي، "المصرف التجاري العراقي"، ورأسه حتى هروبه هذا الأسبوع إلى بيروت، وإصدار المالكي أمراً بإلقاء القبض عليه بتهمة الفساد. "فأر سومطرة العملاق، قصة لا يزال العراقيون غير مستعدين لها"!